خالد بن حمد المالك
في بداية عهد الملك سلمان ملكًا للمملكة العربية السعودية، وخلال إحدى زياراته الخارجية، اجتمع الأمير محمد بن سلمان - كعادته - بالوفد الإعلامي المرافق، وجرى الحوار بين سموه والمشاركين في الاجتماع حول قضايا وموضوعات عدة، وكان يجيب عن الأسئلة والمداخلات بأريحية ووضوح وشفافية وسعة صدر؛ ما شجَّع الجميع على طرح المزيد من الأسئلة، والإكثار من المداخلات، وكان الأمير الجليل يتوسع بإجاباته بأكثر مما كانت تحويه الأسئلة أو المداخلات، معتمدًا على الأرقام والحقائق والفرضيات؛ ما جعل الزملاء يجدون أنفسهم أمام شخصية غير عادية، ويخرجون من اللقاء بانطباعات عبَّروا فيها عن المفاجآت السارة التي وجدوها في إجابات الأمير على مدى ساعتين.
* *
كان من ضمن نصيبي في المشاركة بهذا اللقاء سؤال وجهته يومها إلى سموه: متى موعدنا مع قرار يسمح للمرأة بأن تقود سيارتها، مثلها في ذلك مثل بقية النساء في دول العالم؛ إذ إن المملكة الدولة الوحيدة في العالم المستثناة من حق المرأة في قيادة مركبتها؟ وقد أجاب سموه باقتضاب بأنها (جايه)! مع ابتسامة تحمل الكثير من الثقة والصدق والعزم على أن خطوة كهذه هي في الطريق ضمن الإصلاح الذي يتميز به عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز. وقد حملتُ إجابة ولي العهد على محمل الجد، وأيقنتُ أن هذا القرار قادم، وأن توقيت صدوره يتوقف على الفترة الزمنية المناسبة لإتمام (طبخه) على نار هادئة. وهذا هو ما حدث؛ إذ أُعلن أمس الأول عن وضع نهاية لمنع المرأة من قيادة مركبتها، وإقفال هذا الملف الذي ظلت صفحاته تطاردنا، ونتحرج من موقفنا غير السوي من حق المرأة في قيادة سيارتها.
* *
لم نكن في المملكة في أي يوم ضد المرأة في مواقفنا، أو سعداء بحرمانها من حقوق يكّرسها الإسلام لها، وإنما كانت هناك مفاهيم اجتماعية معيقة لتحقيق تطلعاتها، وكان هناك تخوف مصدره الحرص عليها؛ فنمنع عنها ما هو حق لها. وكانت هناك ثقافة سائدة، تقوم على أن مكانة المرأة بيتها، وتربية أطفالها، والاهتمام بحياتها الزوجية.. وكان يمكن أن تتوسع هذه الثقافة، لولا أنه كان يتم مواجهتها بعمليات جراحية، تطلبت في كثير من الأحيان صدور إرادة سياسية للفصل بين تيارين لصالح تيار دعم المرأة في التعليم والتوظيف، ومنحها المزيد من الحقوق المهدرة؛ حتى لا تُستغل قضية المرأة في التأثير على الإصلاح والتنمية؛ وبالتالي الاستفادة من قدرات النساء، بدلاً من الحجر عليها، ومنعها من الإسهام في خدمة البلاد.
* *
نصف سكان المملكة من النساء، نصف مخرجات التعليم الجامعي من النساء، ومع ذلك يريدون تعطيلها عن العمل وعن التعليم ذات يوم، ويريدونها الآن ألا تقود سيارتها، وأن تكون تحت وصاية الرجل في أبسط الأمور؛ لكي لا تكون عنصرًا فاعلاً ومؤثرًا في تقدم المملكة، بما يجعل في قرار قيادة المرأة السيارة خطوة مهمة وعظيمة في الطريق الطويل نحو مشاركة المرأة في الحراك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؛ إذ ننتظرها في المستقبل وزيرة وسفيرة وفي المواقع العليا الأخرى في سلم وظائف الدولة، وكذلك في القطاع الخاص، كما هي المرأة في باقي دول العالم.
* *
لقد حاربنا ضد تعليم المرأة، وضد دخول التلفزيون إلى بيوتنا، ومنعنا سنوات طويلة دخول الهاتف الجوال متى كان من ضمن مواصفاته وجود آلة تصوير، وحرّمنا التصوير في هوياتنا الوطنية وجوازات سفرنا، ومضينا في المنع أو التحريم فلم نقبل بتدريس اللغات الأجنبية في معاهدنا وبعض جامعاتنا إلا متأخرًا، وكنا ضد ضم تعليم البنات لوزارة التربية، وضد دخول المرأة في مجلس الشورى والمجالس البلدية، وكنا في موقف المعارض لابتعاث البنات للدراسة في الخارج، وضد إعطاء إجازة يوم للطلاب والموظفين في ذكرى اليوم الوطني، ومثل ذلك ضد تغيير الإجازة الأسبوعية من الخميس والجمعة إلى الجمعة والسبت، وتغيير التوقيت من الغروبي إلى الزوالي، ومن استخدام التاريخ الميلادي إلى جانب التاريخ الهجري، وقائمة أخرى طويلة لا حصر لها من الممنوعات والمحرمات التي احتاجت البلاد واحتجنا إلى سنوات طويلة للتخلص منها.
* *
أجل، فقرار السماح للمرأة بقيادة السيارة هو امتداد لقرارات سابقة، احتجنا لها كي نصلح الوضع في البلاد، وكان قادتنا في مستوى المسؤولية في مواجهة التيارات والآراء المتشددة التي أصَّلت في أفراد المجتمع قناعات وأفكارًا لا علاقة للدين بها، وجعلت من قوائم الممنوعات الكثيرة والغريبة؛ ما استدعى بالقيادة إلى ممارسة إحقاق الحق ولو بالتدريج، ولو على مدى سنوات طويلة؛ لنصل إلى هذه المعالجات الحكيمة والهادئة التي وازنت بين إقرار الحق، وكسب تأييد الجميع، بما في ذلك المعارضون؛ للالتفاف جميعًا حوله بالتأييد والمساندة والدعم، والحرص على إنجاحه.