قراءة كتاب جديد بالنسبة لي، تشبه إلى حد كبير طقوس من يقطن كوخ خشبي على جبل في أطراف المدينة، حيث العزلة والهدوء والتفرد بروح الطبيعة والعيش في كنفها بلغة صامتة، تلك الطبيعة التي يقول عنها ريتشارد فاينمان، أنها «تمتلك خيالاً خَصباً أكثر من البشر». ثمة علاقة روحية مشتركة بين الإنسان والطبيعة والكتاب تقودني دائماً لمعايشتها من أجل استعادة شيء من الحياة.
الخيال الممكن، كتاب للأمير سلطان بن سلمان، كان آخر العناوين التي مارست عليها تلك الطقوس، ولكنها لم تكن هذه المرة في كوخ خشبي، بل كانت في بيت طيني قديم في أطراف مزرعة خارج العمران متاخمة لبلدتي «عودة سدير» التي توارت فترة من الزمن ثم عادت لكتابة التاريخ من جديد بفضل «خيال أمكن» من وضعها على خارطة السياحة السعودية، هذا الكتاب الفريد كانت قراءته تحتاج إلى «عزلة» روحية، حتى يمكن أن أعيش كل تفاصيل سيرة التجربة الفريدة، لأن «المُؤَلَّفُ» و»المُؤَلِّفُ» كانا استثنائيين بين ما تحمله عربة التاريخ من تجارب حبلى.
في أروقة خمسمائة صفحة، تأخذك في رحلة طويلة «لما أمكن من خيال»، بدءا من «التأسيس والبناء المؤسسي»، والانتقال إلى «التحولات الفكرية وصناعة الشراكات»، ومروراً «بالتحديات والحلول»، ونهاية «بالقطاف والمكتسبات»، حزمة كبيرة من القرارات والتجارب والأحداث والمواقف والدروس المستفادة تضعك أمام سؤال حرج، كيف مُكِّن ذلك الخيال؟ ومن الذين مكّنوه؟ وأين كان ذلك التمكين؟، أسئلة قد نجد أجوبتها، وأخرى ستبقى مُعلقة، كما هي سمة التجارب العظام التي لا تبوح بكل شيء.
«يا لها من مهمة»، هكذا يصف الأمير سلطان بن سلمان مسئولية إقناع مجتمع اعتاد أن يتعامل مع الغرباء على أنهم ضيوف وكيف يمكن تحويل هذه القناعة للتعامل معهم كسيّاح ليكونوا عنصراً مهماً في بناء اقتصاديات الوطن، «قبلت بها لأنها مهمة وطنية» وهكذا أعلن التحدي للقيام بمهمة أشبه بالخيال عطفا على الظروف التي تحيط بها، وطبيعة الأنظمة الإدارية والمالية، إضافة إلى الثقافة التقليدية التي كانت تسيطر على أروقة العمل الحكومي تجاه قطاع مستجد لا يوجد له أي رصيد تنظيمي يمكن من الانطلاق منه كنواة.
لم يكن أكثر المتفائلين حينها يتوقع أن يكتب لها النجاة، كيف لا وهي التي ولدت من رحم «العناية المركزة» ذلك التعبير الفريد في متن الكتاب. وبعد دورة حياة كاملة، أصبح ذلك الخيال ممكناً، وتحولت السياحة إلى حصان أسود بعد أن كانت خارج دائرة الترشيحات، وتوج ذلك بتكريمها من قبل منظمة السياحة العالمية في أكبر محفل دولي نظير «استطاعتها تطوير مفاهيم المجتمع تجاه السياحة» وإحداث تغيير جذري في صناعتها على جميع الأصعدة، يقول الدكتور طالب الرفاعي الأمين العام لمنظمة السياحة العالمية «إن الأمير سلطان علمنا مبدأ تبنته المنظمة، وأكدت عليه لكل الدول وهو أن السياحة لأهل الوطن أولا ثم لزواره».
كتاب «الخيال الممكن» لم يعد ملكاً للأمير سلطان بن سلمان، بل أصبح من الأصول المشاعة لكل شرائح المجتمع المحلي والإقليمي والدولي أفراداً وجماعات ومؤسسات، وبات مصدراً ومرصداً علمياً وعملياً لكل أولئك الذين قرروا بناء أنفسهم، وقيادة فرق العمل، وخوض غمار التحدي، والذهاب إلى المستقبل. يقول عرّاب هذه التجربة «لقد تعلمت في مدرسة سلمان بن عبدالعزيز، وهي بمثابة الجامعة التي لا تتنازل أبدا عن علو كعبها في التعليم والتربية»، وكفى بذلك برهاناً على مرجعية هذه التجربة الفريدة.
** **
م. بدر بن ناصر الحمدان - متخصص في التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن