عبد الله الماجد
وهذا الموضوع يُكمل سابقه, ولكنه سوف يركز على المقولة, التي طرحها أبو عبدالرحمن بن عقيل, بأن شكسبير, لم يكن غائباً عن أُمهات التراث العربي. وبالتالي فليس من المستبعد أن يكون قد تأثر ببعض المصادر العربية في بناء أحداث بعض مسرحياته, وعلى وجه التعيين «مسرحية عطيل» وفي هذا الشأن كان أبو عبدالرحمن قد قال:
«ولكن اليقين بأن أساس «مسرحية عطيل» أسطورة عربية, لا يتوقف على أمنية المقارنة الواعدة».
وهكذا فإن شكسبير في نظره, غير غائب عن أمهات التراث العربي التي انتقلت في عهده وقبل عهده إلى العالم الأوروبي. فهذه حقيقة تاريخية, وقبل أن أسرد بإيجاز, بعض المحطات التاريخية لهذا التواصل وأهم أدواته بداية الطباعة العربية في أوروبا وإنجلترا, أحب أن أشير إلى قول شكسبير في «ماكبث» من ترجمة أبي حديد, التي أشرنا إليها في الموضوع السابق؛ يقول على لسان «ماكبث»:
« أيها الليلُ, راتقُ الجفنِ, أقبلْ
كي تُعمّي عينَ النهارِ الرحيمْ «
ألا يُجعلنا مثل القول, نتذكر تلك الإيحاءات, التي انسابت إلى نفوسنا وذاكرتنا -نحن العرب المسلمين- مما ورد في الآية الكريمة من القرآن الكريم, في قوله عزّ وجل: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً..} إلى آخر الآية 12 من سورة الإسراء, ولا بُدّ أن المترجم, وهو ابن هذه الثقافة؛ قد انساب إلى ذاكرته, وذائقته الأدبية هذا المعنى فترجمها على هذا النحو الذي يُقرّب ما بين شكسبير وهذه الذائقة التراثية العربية, دون أن يجعل صوت «شكسبير», باهتاً أو متوارياً في هذا القول العربي البليغ, وإن قرّبه من الذاكرة العربية التراثية, على نحو ما تبدى لنا, وسوف نَرى في ترجمة الدكتور محمد مصطفى بدوي, الذي ذكرت ترجمته لمسرحية «مكبث» وترجمته لمسرحية «عُطيل» في الموضوع السابق, على هذا النحو:
«هلّم أيها الليل الـذي يُغمض
العيون, واعصـب عين النهار
الرحيم الحنون» (ص 119)
والفرق بين النصين, أن أولها قد توشى بالتعبير الشعري الموحي, في حين أن الثاني, قد اتخذ التعبير المباشر أسلوباً للتعبير.
أما عن بدايات المطبعة العربية, في أوروبا, وهي إحدى أهم أدوات الاتصال الأوروبي بالثقافة العربية؛ فقد بدأت أولياتها في سنة 1586م وأول كتاب طبعته هذه المطبعة, هو كتاب «القانون» لابن سينا ومعه «كتاب النجاة» الذي هو مختصر «الشفا» وتم إنجاز طبع «القانون» ومعه «النجاة» في 1593م وكل ذلك حدث أثناء عصر «شكسبير».
وإليك ما ننقله عن «الدكتور عبدالرحمن بدوي» في موسوعة المستشرقين تفصيلاً في هذا الشأن, ص 551, دار العلم للملايين, بيروت 1993:
«ويهمنا هنا التحدث عن بداية الطباعة العربية في أوروبا, وهي في الوقت نفسه بداية الطباعة العربية على وجه الإطلاق, لأن الطباعة بالحروف العربية للكتب العربية قد بدأت في أوروبا قبل البلاد العربية, والإسلامية بأكثر من قرن. وأول مطبعة عربية في أوروبا هي تلك التي أمر بإنشائها الكردينال فرنندو دي مدتشي, كبير دوقات توسكانا, وكان يرأس هذه المطبعة, التي كان مقرها في روما, شاب إيطالي من بلدة كريمونا, يدعى بتستا رايموندي Giovanni Battista Raimondi, الذي أقام في المشرق فترة طويلة, ويحتمل أنه تعلّم اللغة العربية, وعلى كل حالٍ فإنه اهتم بالخطوط العربية, والحروف العربية وخصائصها. فاستطاع أن يصنع حروفاً عربية مختلفة الأوضاع. مفردة, متصلة بما قبلها, متصلة بما بعدها, في آخر الكلمة. وأتم حفر وتقطيع هذه الحروف العربية المتحركة المرسومة رسماً جميلاً؛ وابتداءً من 6 سبتمبر 1586م اشتغلت المطبعة في جمع وطبع أو إنتاج لها, وهو كتاب «القانون» لابن سينا, ومعه كتاب «النجاة» الذي هو مختصر «الشفاء». وتم إنجاز طبع «القانون» ومعه «النجاة» في 1593م. لكن خلال هذه الفترة التي امتدت سبعة أعوام - من 1586م إلى 1593م - طبعت هذه المطبعة كتباً صغيرة أخرى باللغة العربية, نذكر منها: الأناجيل الأربعة, في ترجمة عربية, 1590م؛ وتلتها طبعة أخرى لنفس الترجمة العربية وفي مقابلها الترجمة اللاتينية, 1591م. ثم تلا ذلك, في 1592م, طبع لكتاب «الكافية» لابن الحاجب وكتاب «الآجرّومية» لابن أجرّوم. وفي نفس هذه السنة, سنة 1592م, طبع كتاب «نزهة المشتاق في ذكر الأمصار والأقطار والبلدان والجزر والمدائن والآفاق» للشريف الإدريسي, وهو مختصر منتزع مما يعرف بـ»كتاب روجار».
وفي 1588م حصلت هذه المطبعة من السلطان مراد الثالث على امتياز طبع ونشر كتاب «تحرير أصول أوقليدس» من تأليف خوجه نصر الدين الطوسي. وقد تم طبع هذا الكتاب في 1594م. ثم توقفت المطبعة من 1593م إلى 1610م, وأرجح ما قيل في تفسير هذا التوقف هو أن طبع هذه الكتب لم يحظ بالقبول لدى الشرقيين لرداءة الحروف وقبحها وما فيها من أغلاط. وفي 1610م طبعت هذه المطبعة كتاباً ثالثاً في النحو والصرف, هو «كتاب التصريف» تأليف الشيخ الإمام العِزّي. وكان هذا آخر كتاب تولت طبعه هذه المطبعة العربية الأولى في أوروبا وعلى وجه الإطلاق إذ توفي ريموند 1614م». (انتهى)
ونُشير هنا إلى عدة أمور هامة, احتوى عليها هذا النص التاريخي:
1 - أن الطباعة العربية, قد بدأت في أوروبا قبل أن تبدأ في البلاد العربية والإسلامية.
2 - أن إيطاليا هي البلاد التي نشأت فيها أول مطبعة عربية, وأن روما تحديدًا هي التي شهدت بواكير الطباعة العربية.
3 - وأن بتستا رايموندي الإيطالي؛ الذي توفي في عام 1614؛ هو أول من صنع الحروف العربية لهذه المطبعة, التي بدأت بها المطبعة العربية في أواخر عام 1586م.
4 - وأن بعض كتب الشيخ الرئيس ابن سينا, هي أول الكتب التي طبعت في المطبعة العربية, تلتها بعض الكتب في النحو والصرف, وكتاب الشريف الإدريسي (نزهة المشتاق).
وقبل بداية الطباعة في أوروبا, كانت الجامعات العريقة في أوروبا قد اهتمت بإنشاء كرسي للغات الشرقية, ومنها العربية, مثل جامعة أكسفورد التي أنشئت عام 1167م, وكانت جامعة «سانت أندروز» سنة (1411م) في اسكتلندا تُدّرس اللغة العربية لغة وأدب. وجامعة «جلاسكو» (1451م) تُقيم محاضرات للدراسات العربية والإسلامية. ومثلها جامعتي «أدنبره» (1583) و»دبلن» في آيرلندا (1592م) فيهما باحث ومحاضر للغات السامية ومنها اللغة العربية.
(انظر كتاب «المستشرقون» لنجيب العقيقي) وجاء فيه, الجزء الثاني, ص 38, دار المعارف, القاهرة 2006م. تحت عنوان «أثر الشرق في الأدب الإنجليزي» ما يلي:
«لقد تأثر الأدب الإنجليزي بالشرق تأثراً متواصلاً متزايدًا متبلورًا على أقلام»: الفيلسوف روجر بيكون, والشاعرين تشوسر الذي قص قصة الزباء ملكة تدمر. ولد كيت مستوحى القصص الشرقي. وأول مصنف نشر في إنجلترا وهو كتاب كلمات الفلاسفة وحكمهم, نسق على أسلوب عربي, محاكاة لكتاب: مختار الحكم ومحاسن الكلم, لمبشر بن فاتك المصري (1053) وقد نشر المتن الدكتور عبدالرحمن بدوي (القاهرة 1958م) ثم ظهر هذا الأثر في كتابي: راسيلاس, لصموئيل جونسون, والبوتن لكنجليك. وفي مسرحيتي شكسبير: عطيل, وتاجر البندقية. وفي قصتي: الكيماوي لبن جونسون, وتيمورلنك لكرستوفر مارلو» (انتهى)
ولم يكن شكسبير - وقد انتقل من بلدته «ستراتفورد Statford إلى لندن عام 1592م, ليعمل في التمثيل والتأليف المسرحي - بعيدًا عن الانفتاح على ثقافات أخرى كانت تتأثر بها الحياة الثقافية في لندن وبلدان أوروبية أخرى. وكان شكسبير تعلم إلى جانب الثقافة الدينية, الآداب اللاتينية. وكان اللاتينيون أكثر انفتاحاً على الثقافات الأخرى.
وها هو شكسبير, بذائقته الثقافية والتاريخية, يختار موضوعاً, لمسرحيته عطيل؛ ذا صلة ما بمناسبة عربية حدثت في لندن عام 1600, وهي زيارة سفير ملك المغرب إلى إنجلترا وإقامته في لندن, لمدة نصف عام, ولأن الزيارة قد أثارت الاهتمام بأهل المغرب وعاداتهم فأختار لذلك موضوعاً قريباً من الذائقة العربية, ومعبراً عن الاهتمام بأهل المغرب وعاداتهم, على النحو الذي أشار إليه الدكتور بدوي في مقدمته لمسرحية «عطيل», ولكنه أيضًا أشار إلى أن شكسبير استمد حكايته من إحدى حكايات المجموعة التي نشرها الكاتب الإيطالي «شينثيو» في عام 1565 باسم «مائة حكاية».
ولكن ما أشار إليه الباحث الدؤوب الراحل «نجيب العقيقي» في موسوعته «المستشرقون» يُعتبر ذا أهمية تاريخية, فهو يشير إلى أن شكسبير قد تأثر بأثر عربي, وهو كتاب «كلمات الفلاسفة وحكمهم» وقد نُسّق هذ الكتاب على أسلوب عربي محاكياً كتاب «مختار الحكم ومحاسن الكلم» لمبشر بن فاتك المصري, وأن هذا الكتاب الأخير, قد نُشر وحققه العالم الراحل «عبدالرحمن بدوي». ولم يكن شكسبير وحده الذي تأثر بهذا الأثر العربي في مسرحيتيه «عطيل وتاجر البندقية» وإنما تأثر به كذلك, آخرون منهم صموئيل جونسون, وفي قصتي «الكيماوي» لبن جونسون -وهو معاصر لشكسبير- وتيمورلنك لكرستوفر مارلو. وقد يكون هذا الذي ذكره «العقيقي» محفزًا لإعادة النظر, في مصادر أعمال أدبية ذاعت شهرتها على نحو عالمي, مثل رواية «الخيميائي» لباولو كويلو, التي توصل صديقنا الأستاذ «عبدالله الناصر» إلى أن لهذه الرواية -التي لم يكن لها هذا الصيت حينما صدرت لأول مرة- مصادر من حكايات نجدية.
وكان باحثون, قد توصلوا قُبيل نهاية القرن التاسع عشر, إلى تحديد المراحل التاريخية لإنتاج شكسبير, ومنها يتضح أن شكسبير, كتب مسرحية «ماكبث» سنة 1606. ومسرحية «عطيل» سنة 1604. وقبل هذه التواريخ, كانت معظم المدن الأوروبية, قد انفتحت على مصادر الثقافة العربية والشرقية, ولولا هذا الانفتاح لما تمكنت البلدان الأوروبية من غزو بلدان المشرق ومنها البلدان العربية, فيما بعد.
ومن هنا؛ تتأكد مقولة أن شكسبير, قد تأثر ببعض المصادر العربية في أدبه, وأن هذا التأثر قد أضاف إلى أدبه بُعدًا تاريخياً وإنسانياً, وأن أمنية المقارنة؛ قد أصبحت يقيناً وواقعاً تاريخياً مُوثَقاً.