د.نادر بهار العتيبي
أن تسمع عن تواضع العلماء ورفقهم ولين جانبهم وكرمهم وحرصهم على وقتهم، واجتهادهم في عبادتهم؛ فهذا حسن، ولكن أن تعايش هذا عياناً بياناً كالشمس في رابعة النهار فهذا الأكمل والأمثل، وقد قيل: ليس من رأى كمن سمع. أربعة أيام قضيتها بمرافقة سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ في حجّ هذا العام 1438هـ. وأستأذن سماحته في هذا المقال، والتي أدرك تماماً أنه لا يرغبه ولا يبحث عنه.. لكنها أخلاق الرجال، وأخلاق الكبار، وأخلاق العلماء، التي يجب نشرها والتحلي بها والدعوة إليها.
أعود فأقول أربعة أيام ما أجملها وما أجمل لياليها في تلك المدرسة الإيمانية، تنهل من نبعها الصافي وماءها العذب ومنهجها السليم فتجده سائغاً للشاربين.. تحلى سماحته بصفاتٍ أدهشتني، وأثارت قريحتي، وحركت فؤادي، فاستجاب لها قلمي، فكتب ووصف سماحته بما يلي:
1- عبادته: كان سماحة المفتي حريصاً كل الحرص على عبادته وحضورها مبكراً، فيشهد صلاة الجماعة في مصلى الحملة، ويؤدي الصلوات الخمس معنا، ويجلس في مصلاه يحدّث ويذكر الله ويقرأ أوراده بكل خشوع وسكينة، يتواطؤ فيها القلب واللسان، وربما أوتر قبل أن يذهب من مصلاه. فهو ينام مبكراً وفي أحيان كثيرة لا يرغب بالصلاة على الكرسي، فيقف شامخاً قوياً متوكلاً على الله. وقد أدّى عبادته على منهج النبي صلى الله عليه وسلم في يوم التروية بمنى، وفي الذهاب باكراً إلى عرفة، والانشغال بالدعاء، وفي الانصراف من عرفات، والمبيت بمزدلفة، ويوم النحر، ورمي الجمرات، حتى طواف الوداع.
2- دروسه اليومية: يقرأ على سماحته في مختلف العلوم الشرعية وتراجم الرجال والسير، وتقرأ جميعها من طلابه الشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم بن قاسم، والدكتور عبدالرحمن العريفي، والدكتور عبدالنافع زلال، والشيخ أحمد العرفج، وغيرهم من طلابه الذين يرافقونه في الحج، وهذه الدروس يومياً من العاشرة صباحاً إلى الثانية عشرة ظهراً، ثم من بعد صلاة العصر إلى صلاة العشاء، ولا تخلو من تعليقاته النافعة المفيدة، وهو مع هذا تجده حاضر الذهن، سريع الفهم، وربما طلب إعادة قراءة المتن وناقش فيه الحضور واستشهد بأقوال العلماء ورجح المسألة.
3- كرمه: نال محل الضيافة الخاص بالضيوف عناية سماحة المفتي وحرصه وتأكيده على الكرم وتذليل كافة الصعوبات وتوفير جميع المأكولات والمشروبات الباردة والحارة على مدار الساعة، وهي تصلك في مقر سكنك بأوقات محددة مع فريق متميز في الخدمة.. هذا مع ما زودت به مقرات سكن الضيوف من الماء والفاكهة اليومية والفرش، ومستلزمات النوم.
4- لينه ورفق جانبه وتواضعه: وأنا أتأمل تلك الأيام أتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: اللين ما جاء في شيءٍ إلا زانه، وما نزع من شيءٍ إلا شانه.. وأشهد الله أنه كان لينا سمحاً رفيقا بنفسه وبرفقته وبضيوفه، لا تجد للغلظة والشدة مكاناً في تعامله، بل يجلس مع الكبير والصغير، والعربي وغير العربي، ويرد على هذا وهذا، ولا يفرق بين أحد. إذا أتيته تسلم عليه، سأل، فقال: من الأخ: فشدّ على يدك اليمنى وابتسم في وجهك، وكأن تربطك بها سنون العمر.. بل يمازح طلابه ويضحك معهم، وكان للشيخ محمد اليوسف وناصر التميمي نصيب من ذلك.
5- احترام العلماء له: من اليوم الثامن إلى اليوم الثاني عشر لم يخلُ مجلسه العامر من تردد الضيوف عليه للسلام والتهنئة بالحج والعيد، وقد زاره وفود من خارج المملكة؛ إجلالا له وتقديراً واحتراماً، وزاره المشايخ الكبار من أعضاء هيئة كبار العلماء، كمعالي الشيخ الدكتور صالح الفوزان، ومعالي الشيخ صالح بن حميد، ومعالي الشيخ الدكتور سعد الشثري، ومعالي الشيخ سليمان أبا الخيل، ومعالي الشيخ عبدالكريم الخضير، وفضيلة الشيخ خلف المطلق، وأنا أرى هذا التوافد من هذه الشخصيات الدينية أتذكر قول الله تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات.. إنه العلم والخشية من الله التي نالها علماء الأمة.
6- حرصه على نفع الناس: فهو لا يبخل بشيء من ذلك، فيستقبل صاحب الحاجة ويجلس معه ويسمع منه، ويرد على الهاتف لاستقبال الفتاوى، وفي طيلة أيام الحج كان له لقاء مباشر مع إذاعة القرآن الكريم بالتنسيق مع مندوب إذاعة القرآن الكريم الشيخ عثمان بن عبدالكريم الجويبر، والذي كان متواجد مع الشيخ ومرافقا له. يقول صلى الله عليه وسلم: خير الناس أنفعهم للناس.. ومع تلك الصفات حظي سماحته بحرص مرافقيه عليه؛ فقد حباه الله بفريق عمل كبير على رأسهم الشيخ الكريم عبدالرحمن بن صالح العبد الهادي، المدير العام لمكتب سماحة المقتي، والشيخ صالح المرشد والشيخ مبارك بن حميد الوثلان، يستشيرونه في كل صغيرة وكبيرة بأدب واحترام، وخلفهم أسماء كثيرة وكبيرة، لا تحضرني الآن، وأنا على يقين تام بحرصهم على سماحته وتوفير سبل الراحة له، يضاف لذلك الفريق الطبي المرافق له، ويشده الموكل بالمراسم والاستق بال، والموكل بالموكب الرسمي، وقد أدوا دورهم بامتياز واحترافية كبيرة. وكان سماحته حريصا عليهم بالسوال عنهم والاطمئنان عليهم، وتفقدهم. أتيت سماحته قبل ظهر الثاني عشر فقلت له: استبيحك عذراً فأنا متعجل اليوم، فقال: سامحني، سامحني على القصور.. وأي قصور تقصده سماحة المفتي وأنا في كرم وضيافة وتوفير سبل الراحة منذ اللحظة الأولى، لكنها أخلاق الكبار التي ذكرتها في بداية هذه المقال.
وأخيراً: ليعلم الناس أن هذه الأخلاق هي أخلاق علماء هذا البلد، تحلوا بها، وتواصوا عليها، ودعوا لها بسلوكياتهم، فنالوا بذلك ثقة ولاة أمر هذه البلاد وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود.
متعك الله سماحة المفتي بالصحة والإيمان وأمدك بعمر طويل على طاعته.