د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
كلما تطوَّر الاقتصاد تطوَّرت معه أهمية الخدمات البريدية بفئاتها كافة: المخاطبات، الشحن، أو التجارة الإلكترونية. والبريد الفعَّال الموثوق مرآة، تعكس أيضًا نجاعة ودقة التعاملات الأخرى في المجتمع. ويلعب البريد في دول مثل بريطانيا دورًا مركزيًّا في حياة المواطن؛ إذ تُتبادل جميع الوثائق بمستوياتها كافة بالبريد. كما يستطيع المواطن أن يقدم للخدمات والإعانات كافة من خلال مكاتب البريد التي تنتشر في كل مكان. ليس ذلك فحسب، بل تُصرف رواتب التقاعد والإعانات الاجتماعية من مكاتب البريد ذاتها. وتدين بريطانيا بكثير من تطورها الاقتصادي لنظام البريد المتقدم فيها. ويُستخدم البريد في الدول المتقدمة لإيصال الأدوية للمحتاجين لها بشكل دوري بدلاً من التكليف عليهم بالحضور لاستلامها. وكذلك لتوزيع الكتب والنشرات التوعوية التي تهم المواطن.
وتوفر خدمات البريد الجيدة الموثوقة الكثير من الجهد والوقت للأفراد والدوائر الحكومية والخاصة، وتخفف الضغط على الطرق وعلى وسائل التنقل؛ إذ يضطر الأفراد لإضاعة الوقت والجهد لتسليم أو استلام الرسائل والطرود بأنفسهم. كما أنها تخفض العمل البيروقراطي؛ فلا يضطر المواطن للبحث عن الموظف الذي يسلمه وثائقه، وتقلص الضغط على ما تسمى بمكاتب الصادر والوارد. وفي المدن الرئيسة في العالم يضع الناس رسائلهم في صناديق منتشرة في الشوارع كافة دونما عناء للوقوف في طابور لتسليم طرد أو رسالة. ورغم أن البريد يُجمع من صناديق الشوارع بشكل يومي قلما تسمع عن ضياع رسالة كما في بريدنا الذي يستلم فيه موظف الطرد مباشرة!
وزادت أهمية البريد بشكل كبير مع عولمة التجارة وتقدُّم التجارة الإلكترونية؛ فيمكن للمواطن التبضع وهو في بيته من أنحاء المعمورة كافة، وتصله بضائعه لباب منزله سليمة كاملة. فكثير من البضائع لا تتوافر لدى متاجر محلية أو وكلاء محليين، ويمكن الحصول عليها عبر البريد. وتستخدم بعض المتاجر الإلكترونية مؤخرًا طائرات الدرون الصغيرة لتوصيل الطلبات؛ لذا تزداد أهمية العناوين البريدية الصحيحة يومًا بعد الآخر. واليوم يستطيع موظف البريد استخدام خرائط البريد الإلكترونية أو حتى خرائط قوقل للوصول لأي مكان، فلا عذر للضياع أو الجهل.
ويمكن القول بأنه لا مجال لتطوير اقتصاد حديث بدون خدمات بريدية موثوقة. وقد أدركت المملكة أهمية البريد؛ وصدرت توجيهات جادة بضرورة تطويره، ودعمته الحكومة دعمًا سخيًّا، لا يتسنى لأي بريد خارجي مماثل رغم أنه يعمل كقطاع خاص، إلا أن هذه الجهود - وللأسف - تتعثر في كل مرة بشكل غير مفهوم. وكان آخر هذه الخدمات خدمة «واصل» التي لم تتمكن من الوصول للمستوى المطلوب حتى الآن. وكثير من الناس اشتركوا في هذه الخدمة لسنوات، ودفعوا الاشتراك، ولم يصلهم أي شيء على الصناديق التي كلفوا أنفسهم عناء تركيبها بناء على توصية من البريد السعودي نفسه. وقدَّم البريد السعودي خدمة «واصل» العالمي، ولها مقابل مرتفع دونما خدمة تتناسب مع هذا المقابل. فبالرغم من وجود العناوين الواضحة إلا أنه على المواطن أن يتصل مرات عدة ليستفسر عن طرده ليطلب منه موظف «واصل» في نهاية الأمر أن يتجه لأقرب مركز بريد للحصول عليه بنفسه!! مع أن شركات أجنبية تشحن للمملكة، وتوصل الطرود للمنازل بعناوين «واصل» ذاتها. ومما يؤسف له أن كثيرًا من شركات التجارة العالمية تستثني المملكة من شحن الطرود القابلة للتلف؛ لأنها عانت من تجربة الكثير من المصاعب في تأخر هذه البضائع أو تلفها. فالمملكة تعد من أقل البلدان موثوقية عندما يتعلق الأمر بالطرود البريدية. وللبريد السعودي موقع في تويتر، لا تنقطع عنه الشكاوى من تأخُّر الطرود أو حتى فقدانها. وفي كل مرة يرد البريد سائلاً المتصل عن رقم طرده ومعلومات أخرى. وتكرُّر مثل هذه التساؤلات دونما حل أمرٌ غريب جدًّا. والبريد مثل مَن يُستأمن على أمانة ليوصلها لصاحبها، ومع ذلك يعتبر البريد السعودي نفسه غير مسؤول عن ضياع الرسائل والطرود، ولا يعوِّض المواطن عنها أو عن تلفها في حالة التلف! وربما هذا هو السبب الرئيس في التهاون بهذه الخدمات المهمة.
السعوديون يدفعون مبالغ سخية مقابل الخدمات البريدية؛ ويستحقون خدمات أفضل من المقدمة حاليًا. فلا يعقل أن يستمر الوضع كما هو. ونحن استوفدنا خبراء وشركات استشارية لكل صغيرة وكبيرة من أمورنا، لكننا لم نستقدم من يقدم مشورة أو حتى رقابة على الخدمات البريدية مع أهميتها المفصلية للاقتصاد والتعاملات الحكومية والخاصة. هناك - لا شك - أمر ما قد لا نعرفه، ولكن لا بد من إصلاحه.