أحمد المغلوث
كانت الحفيدة الشابة تقرأ من أحد المواقع الصحفية ومن خلال هاتفها الذكي وبصوت واضح، حكاية أوائل النساء العربيات اللواتي حصلن على رخص قيادة السيارات في الماضي، وكانوا بالحق رائدات في هذا المجال في بلادهم.. وبالتالي حملن مبكراً راية القيادة بين الآلاف من النساء في مجتمعاتهن. وراحت الحفيدة تذكر أسماء كلٍّ من السيدات: الكويتية بدرية سعود الصباح والمصرية عباسة أحمد فرغلي، وفي البحرين فاطمة الزياني وسلوى العمران، والعراقية أمينة على صائب، والسودانية آمنة عطية، والسيدة الإماراتية موزة نكحان، وكذلك العدنية السيدة عائشة عرور.. كان جميع أفراد الأسرة الذين توزعوا في أرجاء الصالة الكبيرة يتابعون بدهشة قراءة الحفيدة لتقرير الصحيفة بتقدير لرائدات فاضلات كان لهن السَّبق والمبادرة في قيادة السيارة، أيام كانت الحياة صعبة والتقاليد أكثر صعوبة، ومع هذا كانت نفوسهن تواقة إلى تجربة شيء جديد، ومن خلال هذه التجربة استطعن ممارسة حياتهن وعملهن بسهولة ويسر. كانت الجدة وبحكم سنّها وأمراض ركبتيها، كانت تسترخي على مقعد خاص أشبه ما يكون بالسرير، ويداها متشابكتان فوق صدرها وبينهما سبحة فيروزية اللون والأحجار تداعب حباتها، وهي تتمتم ببعض الأدعية القصيرة، ومع هذا كانت تصيخ السمع لما تقوله حفيدتها. وما إن انتهت الحفيدة من ذكر ذلك حتى تطلّعت إليها باسمة وراحت ذاكرتها تنقلها إلى الماضي البعيد، عندما كانت مازالت في عام زواجها الأول وكانت برفقة زوجها في سيارتهما (البكب الفورد الزرقاء)، قادمين من الكويت بعد زيارة عائلية، وفي حوالي الساعة الواحدة صباحاً عندما حدث ما لم يتوقع، فلقد أغمى فجأة على زوجها «إغماءة سكّر»، وبسرعة استطاعت أن توقف السيارة جانباً وأن تبعد جسده عن موقع القيادة. وفتحت علبة فاكهة الأناناس وسقت زوجها بعضاً من مشروبه قبل أن تنطلق بالسيارة.. بعدما جلست مكانه خلف المقود وقادتها في اتجاه الدمام. لم تكن تستطيع فعل ذلك لولا أنها كانت تعرف كيف تقوم بتشغيل محرك السيارة وتقودها بحكم أنها تعلمت من سيارة والدها في (مزرعتهم) الكبيرة، وكيف كانت تسوق السيارة داخل المزرعة بل إنها كانت تلبس ثوب شقيقها وتقود السيارة إلى بقالة «شيشة البانزين» لتشتري منها بعض احتياجاتهم وهي متلثمة وتضع نظارة شمسية. ومازالت تذكر نظرات البائع وهو يشاهدها داخل سيارة والدها ( الجيمس ) وتكاد نظراته تخزها خزاً.. في تلك الأيامتعلمت القيادة وكان والدها يعلم أنها باتت تجيد قيادة سياراتيه. الوانيت الجيمس .. والشفر الصغيرة. وراحت تتذكر كلماته لها: «يا ليتك يا بنتي كنت ولد. أنت تسوقين أفضل من أخوك» .. قطعت مسافة طويلة في اتجاه الدمام وهي قلقة فلم يكن أيامها لوحات تعريف بموقع المستشفى. ولكنها تذكرت مقولة «كل الطرق تؤدي للطاحونة» فعليها أولاً الوصول إلى المدينة وبعدها لن تتردد أن توقف أي سيارة وتسأل صاحبها عن المستشفى.. كان زوجها صامتاً وهو يستند بجانبها على باب السيارة ولم ينبس ببنت شفة. وكانت بين فترة وأخرى توقف السيارة وتسقي زوجها مشروب الأناناس وتتحسس يده. وما هي إلا ساعة فإذا بها داخل المدينة عندما أشارت لسيارة أحدهم طالبة منه إرشادها للمستشفى فزوجها مغمى عليه. وكان صاحب السيارة رجلاً نبيلاً فطلب منها أن تتبعه ليوصلها مباشرة إلى إسعاف المستشفى وسط دهشته وإكباره لها. وفي قسم الإسعاف وبعدما أجريت لزوجها الإجراءات الإسعافية السريعة تبادلت نظرات مختلفة مع الطبيب المناوب والممرضين والممرضات. عندما قال لها الطبيب «هل حقاً أنت من قاد السيارة من رأس مشعاب إلى هنا، لقد أنقذتِ زوجك من موت محقق . أسمحي لي أن أقول لك إنك زوجة عظيمة». وقبل أن تنتهي الجدة من حكايتها الصامتة عبر ذاكرتها. قالت لها ابنتها «سارة» أمي وين رحتِ فيه. فردت عليها باسمه. وهي تتذكر حكاية ( الزوجة العظيمة) كانت أمك قبل خمسين سنة رائدة في قيادة السيارات لكنها رائدة مجهولة وسوف تظل كذلك..