«الجزيرة» - محمد السلامة:
بدأت دول مجلس التعاون الخليجي اتخاذ خطوات فعلية نحو تعديل أسعار الطاقة (البنزين والديزل) في خطوة وصفها مراقبون بأنها تأتي ضمن برامج للإصلاح الاقتصادي تشمل عدة محاور. ومن شأن هذا التحرك أن يسهم في معالجة التشوهات الاقتصادية وتحقيق كفاءة الإنفاق الحكومي وتقليص مستوى الهدر والاستهلاك السلبي للطاقة، إلى جانب جعل هذا القطاع في أعلى مستوى من الاستغلال والإنتاجية.
وأعلنت كل من الإمارات وقطر وعُمان تغييرات جديدة في أسعار البنزين والديزل لشهر أكتوبر الحالي، فيما ينتظر أن تتخذ المملكة إجراء تعديلات على أسعار الطاقة ومنها الوقود خلال الفترة المقبلة. وبحسب تقرير بث عبر «العربية»، فقد رفعت الإمارات وقطر أسعار كل أنواع البنزين وسعر الديزل مقارنةً مع الشهر الماضي، كما رفعت أيضا عُمان سعر البنزين الممتاز والديزل. وفقاً لهذه التعديلات الجديدة تظل الإمارات متصدرة لقائمة دول مجلس التعاون الخليجي من حيث الأسعار الأعلى للبنزين، تلتها عُمان في المرتبة الثانية، ثم قطر والبحرين والكويت، وأخيرًا المملكة بأقل مستوى للأسعار بالخليج عند 90 هللة للبنزين الممتاز، و75 هللة للبنزين العادي، ثم 45 هللة للديزل..
وهنا، أكد اقتصاديون لـ «الجزيرة» أن مسالة إعادة هيكلة نظام الدعم الحكومي لأسعار المنتجات النفطية (البنزين والديزل) سيعود على المدى الطويل بالنفع على الاقتصاد الأوسع لدول مجلس التعاون، نظرا لأن هذا الدعم هو تشويه هيكلي للأسعار وعبء على الموازنات العامة، كما أنها خطوة نحو رفع كفاءة الاقتصاد وتقليص الهدر والاستهلاك السلبي للطاقة، إلى جانب أن تضخم فاتورة الدعم وتعارضها مع الإصلاحات الاقتصادية دفعت الحكومات الخليجية لرفع هذا الدعم تدريجيا وحتى الوصول به إلى مرحلة التعويم الكلي. وكانت جهات اقتصادية عالمية قد أوصت دول الخليج بإعادة هيكلة نظام الدعم، ومنها دعم المحروقات، لضمان وصوله للأطراف المستحقة، بدلا من توزيعه بشكل عشوائي، حيث يستفيد منه حاليا أصحاب الدخل المرتفع.
وقال الاقتصادي محمد العنقري إنه من المهم النظر إلى أن حجم الاستهلاك ونموه للوقود وللطاقة من الأعلى عالميا بالمملكة ومع ذلك لسنا من الأكبر استفادة من هذا الاستهلاك، حيث لا ينعكس على حجم الصناعات والنمو المستدام للاقتصاد. وتابع: إذ أن أغلبه استهلاك سلبي يهدر جله بسبب استخدام المركبات الخاصة بكثافة وذلك لرخص أسعار الوقود ولمحدودية دور النقل العام.
وقال العنقري إن الهيكلة الاقتصادية التي بدأت بالمملكة متوجة برؤية 2030 وبدايتها برنامج التحول الوطني التي تهدف لرفع كفاءة الاقتصاد وتقليص الهدر والاستهلاك السلبي للطاقة عموماً تعد النموذج الأفضل لوقف استنزاف هدر الطاقة، والذي إن لم يعالج فسيؤثر مستقبلا سلبياً على حجم صادرات المملكة من النفط بانخفاضها، فالمملكة حاليا خامس مستهلك للنفط عالميا بقرابة 4 ملايين برميل نفط ونفط مكافئ يومياً وهي لا تحتل ذات المرتبة في ترتيب الاقتصاد العالمي، منوها إلى أن التوجه لرفع أسعار الوقود يعد جزءا مهما من الإصلاحات حيث تستهلك المملكة يومياً أكثر من 800 ألف برميل لقطاع النقل الذي يشكل 23 % من الاستهلاك للنفط يومياً ولذلك لابد من إصلاحات تعالج ارتفاع هذا الاستهلاك، كما أنه بالنظر إلى أن المملكة الأقل سعرا للوقود بين دول الخليج فإنه من الضروري اصلاح مستوى الأسعار لأنه سيساهم بخفض الهدر خصوصاً أنه سيتم تعويض المواطن عبر برنامج «حساب المواطن» عن رفع أسعار الطاقة مما سيساعده على تحمل جل التكاليف الناجمة عن رفع الاسعار وسيركز المستهلك على تنقله بمركبته للاعمال العامة والخاصة الأساسية وسيبتكر حلوله الخاصة لتقليل الاستهلاك وكذلك الأمر بالنسبة للقطاع الخاص، إضافة إلى أن وجود فجوة سعرية كبيرة بين المملكة ودول الخليج التي رفعت الأسعار قد ينشط اعمال التهريب ايضاً، لذلك من المهم إعادة النظر بأسعار الوقود. ولفت العنقري إلى أن أسعار الوقود في المملكة مهما تم تعديلها ستبقى من الأقل إقليميا وعالمياً نظراً لعوامل عديدة لكون المملكة منتجا رئيسيا للنفط، كما ستسهم هيكلة الاسعار بخفض حجم الدعم حيث يتخطى بالمتوسط 300 مليار ريال سنويا للطاقة مما سيعزز من إيرادات وإصلاحات المالية العامة والذي سينعكس مستقبلاً بإنفاق حكومي أوسع على المشاريع والبنى التحتية لأنه سيقلص من العجز بالميزانية مع تراجع إيرادات النفط وتقلبات الأسواق التي نمر فيها مع دخول منتجين كثر لأسواق النفط.
من جانبه، قال الاقتصادي فضل سعد البوعينين إن دول الخليج لم تتوقف عن مراجعة أسعار الطاقة وتحريرها من الدعم منذ أن بدأت رحلة المراجعة الأولى، مشيرا إلى أن تضخم فاتورة الدعم الحكومي لأسعار الوقود وتعارضها مع الإصلاحات الاقتصادية دفعت الحكومات الخليجية لرفع الدعم تدريجيا وحتى الوصول به إلى مرحلة التعويم الكلي. وقال: بالرغم من ارتفاع أسعار الوقود في دول الخليج مقارنة بالمملكة؛ إلا أنها استمرت في رفع أسعاره بشكل منظم لتقليص فاتورة الدعم الحكومي؛ ولتحقيق هدف الترشيد والإصلاح الاقتصادي، وأن إقدام كل من الإمارات وقطر وعُمان على إجراء تغييرات جديدة في أسعار البنزين والديزل لشهر أكتوبر الحالي يُنبئ باتخاذ الدول الأخرى إجراء مماثلا في المستقبل المنظور.
وأشار البوعينين إلى أنه مع دخول المملكة عهدا جديدا من إعادة الهيكلة الاقتصادية، بهدف تنويع مصادر الاقتصاد والدخل ومعالجة التشوهات الاقتصادية وتحقيق كفاءة الإنفاق وإعادة توجيه الدعم من خلال تطبيق سياسة الدعم الذكي الذي يصل مستحقيه من السعوديين دون سواهم؛ أصبح ملف معالجة التسعير في قطاع الطاقة من أولوياتها المعلنة؛ غير أنها ربطت بين رفع اسعار الطاقة وبين استمرارية الدعم لمستحقيه دون سواهم؛ وانتهاج سياسة التوعية وتطبيق برامج الترشيد. وتابع: إصلاح قطاع الطاقة أحد أهم برامج التحول الاقتصادي؛ حيث تستنزف فاتورة الدعم جزء مهم من الإنفاق الحكومي. لم يعتمد إصلاح قطاع الطاقة على التسعير في مراحله الأولى؛ بل اعتمد على برامج الترشيد والتوجيه وتعديل مواصفات المركبات والأجهزة الكهربائية لضمان خفض استهلاك الطاقة بشكل أساسي، فتلبية الطلب على الطاقة المحلية ليس بالأمر السهل؛ كما أن مخاطر الشح في بعض المناطق تفرض على الحكومة اتخاذ إجراءات محددة لضمان الاستدامة. مشيرا إلى أن البرنامج الوطني لكفاءة الطاقة من أهم البرامج الوطنية التي أسهمت بشكل فاعل في خفض استهلاك الطاقة على أسس علمية؛ تعتمد المواصفات والمقاييس أساسا لها؛ إضافة إلى حماية السوق والرقابة الفاعلة والشراكة مع الوزارات المعنية والقطاع الخاص.
وأكد البوعينين على أن تقليص الانعكاسات السلبية لأي مراجعة مستقبلية لأسعار الطاقة إحدى الركائز المهمة التي اعتمدت عليها الحكومة في إصلاحاتها الاقتصادية، لافتا إلى أنه بالرغم من أهمية خفض فاتورة الدعم المكلفة في السعودية؛ إلا أن الحكومة آثرت إعادة توزيع الدعم بطريقة ذكية تضمن وصوله مستحقيه دون سواهم؛ ما دفعها لإنشاء حساب المواطن الذي سيمكن الحكومة من إيصال كامل الدعم إلى مستحقيه وفق منهجية محددة تأخذ في الاعتبار حجم الدخل وعدد أفراد الأسرة وبما يخفف من تبعات رفع أسعار الوقود، فمن المفترض أن يحصل المواطنون من ذوي الدخول المتوسطة والمتدنية على التعويض المناسب دون سواهم من ذوي الدخول المرتفعة أو المقيمين وبما ينعكس إيجابا على فاتورة الدعم الكلية. وتابع: إن مراجعة أسعار الوقود من الأمور المقلقة للحكومة والمواطنين على حد سواء؛ إلا أن تحقيق متطلبات الإصلاح الاقتصادي تستوجب العمل على مراجعة تشوهات قطاع الطاقة وتحقيق هدف ترشيد الاستهلاك وفق منظومة تأخذ في الاعتبار معالجة الانعكاسات السلبية على المجتمع والاقتصاد الكلي على حد سواء.
وينتظر أن تتخذ المملكة إجراء تعديلات على أسعار الطاقة ومنها الوقود خلال الفترة المقبلة دون تحديد تاريخ معين لبدء التطبيق أو قيمة الزيادة في الأسعار. ويأتي الاجراء بحسب تقرير لـ «سبق» الذي تتجه له المملكة ضمن خطوات إصلاح قطاع الطاقة والذي يعد جزءا أساسياً من برنامج التحول الاقتصادي الطموح الذي أطلقته المملكة العام الماضي والذي يحد من اعتماد المملكة على عائدات النفط، وينوع مواردها الاقتصادية. وأعلنت المملكة في وقت سابق بأنها ستعوض المواطنين من ذوي الدخل المتوسط والمحدود عن التغييرات التي ستجريها على أسعار الطاقة وذلك عبر برنامج حساب المواطن الذي ينتظر الإعلان عن تفاصيله قريباً. يشار إلى أنه وعلى الرغم من الارتفاع المتوقع في أسعار الوقود ، تعتبر السعودية الأقل في أسعار المحروقات والوقود في دول الخليج.
الجدير بالذكر أن معدلات الاستهلاك المحلي المتنامية للطاقة في دول المجلس تستدعي معالجة سريعة لتلافي تداعياتها المستقبلية إذا ما استمرت في النمو بنفس وتيرتها السابقة، ومعالجة هذا الوضع تتطلب الوصول إلى توازن بين الطلب المتزايد على الطاقة وتطوير آليات الضبط والترشيد في استهلاكها، الذي يعد من أهم التحديات التي تواجهها هذه الدول حالياً ومستقبلاً، لذا فإنه من الضرورة إيجاد حزمة إصلاحات تتضمن وضع معايير وقوانين لضبط الاستهلاك وتحقيق أعلى درجة من الكفاءة والاستغلال في استهلاك الطاقة، وإدارة وترشيد الاستهلاك وفق منظومة معرفية واجتماعية وبيئية متكاملة وقابلة للقياس والمتابعة بشكل دائم، وذلك بهدف جعل قطاع الطاقة في أعلى مستوى من الاستغلال والإنتاجية، وأدنى مستوى من الهدر والأضرار البيئية وغير البيئية. حيث إن مواجهة هذه التحديات تتطلب اعتماد عدد من الخيارات التي تضمن التوازن ما بين الصادرات النفطية، والتنمية الاقتصادية، والعوائد الاجتماعية وهذا الأمر يتطلب بدوره بلورة سياسة متكاملة للطاقة في دول المجلس يشارك في صياغتها كل الأطراف ذات العلاقة بما يضمن تعظيم العوائد الاقتصادية والاجتماعية لثروة ناضبة كالنفط والغاز.