د. محمد عبدالله العوين
فور أن أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- أمره الكريم إلى وزارة الداخلية بسن نظام مكافحة التحرش ورفعه إلى المقام السامي خلال ستين يومًا إلا وتباشر المواطنون نساء ورجالا خيرا وامتلأ فضاء وسائط التواصل الاجتماعي بالتعليقات المؤيدة وبالمشاعر الفياضة بالحب والتقدير للقيادة، وبخاصة أن هذا الأمر الكريم قد جاء بعد يومين فقط من صدور الأمر الملكي الشجاع والرائد بالسماح للمرأة بقيادة السيارة بدءًا من تاريخ 10-10-1439هـ، مما يؤكد عزم الدولة على حماية المرأة وصون كرامتها ممن يمكن أن تسول له نفسه الرديئة أن يسيء إلى المرأة بأية صورة من الصور.
وسبق لمجلس الشورى أن ناقش قضية التحرش على مدى سنوات، وبعد أخذ ورد طويلين تم الاتفاق من الأغلبية على أن يضم التحرش إلى قانون الحماية من الإيذاء، وهو ما أضعف العقوبات المقترحة وقلل من قيمتها وأضاع تشخيص صفة «التحرش» بإدراج المصطلح في مفهوم الإيذاء؛ ربما هروبا مما تبادر إلى أذهان بعض الأعضاء أو توهموه بأن قانون التحرش المقترح قد يفهم منه أنه يشرعن للاختلاط!
ومن المثير للعجب والغرابة في آن أن يظل بعض أعضاء مجلس الشورى مرتهنين إلى مفهومات اجتماعية غير دقيقة لا تفرق بين «الخلوة» المحرمة و«الاختلاط» الطبيعي المباح الذي يعيشه المجتمع بتلقائية وسلاسة ودون استنكار أو حتى تساؤل، يختلط الرجال بالنساء في الطواف والسعي والصلاة في الحرمين الشريفين، وفي الأسواق والمستشفيات والشوارع وغيرها، ولا يمكن أن يتم فصل عالم النساء عن عالم الرجال بالكلية، ولم يحدث هذا في أي مرحلة من تاريخنا الإسلامي بدءا بالعهد النبوي الشريف ثم الخلفاء الراشدين ثم تتابع الدول الإسلامية.
أما أن تحدث مخالفات أخلاقية وتحرش بالمرأة أو الطفل، أو عدم مراعاة المرأة للحشمة بلباس مثير للشهوات ومخالف للمألوف فإن هذا أيضا موضع سن العقوبات الرادعة للرجل المسيء وللمرأة غير المنضبطة بالآداب العامة، وهنا مدخل احتج به من عارضوا سن نظام مكافحة التحرش في مجلس الشورى؛ فقد قال بعضهم إن القانون المقترح لا يعاقب الرجل المتحرش إذا كانت المرأة راضية، ويرد عليه بأن الشكوى أو التبليغ عن واقعة التحرش لا تأتي من المرأة فحسب؛ بل من المجتمع أيضا، أي ممن يرى ويتوثق من الواقعة المسيئة؛ لأن الغاية ليست حماية المرأة التي تتعرض للتحرش فحسب؛ بل حماية الأخلاق العامة بألا يقع ما يسيء للأخلاق وللآداب وللقيم الدينية التي تضبط قواعد السلوك الاجتماعي.
وقد كانت مقترحات بعض أعضاء مجلس الشورى الذين دعموا مقترح مكافحة التحرش هزيلة -مع الأسف- وغير كافية لردع المتحرش؛ فقد اقترحوا غرامة 50 ألف ريال وسجن ستة أشهر، وهذا المقترح الهزيل لن يردع المستهتر المنحط في أخلاقه؛ فلا بد من أن يسن نظام رادع يؤدب من لم يؤدبه أبواه ويردع من لم يردعه دين ولا ضمير ولا حياء، فأقترح أن يتضمن نظام مكافحة التحرش:
غرامة 500 ألف ريال، سجن سنة، تثبيت الواقعة في السجل الشخصي، نشر واقعته في الصحف مع صورته الشخصية، تأديبه تعزيراً بما يراه القاضي بالجلد في السجن أو في المكان الذي حدثت فيه الواقعة.
ومن صور التحرش التي لا بد من عقاب المسيء عليها عقابا قاسيا: الكلام الهادف إلى انتهاك خصوصية المرأة أو الطفل، اللمس، الإيذاء بأدوات التواصل الاجتماعي، المضايقة بالإشارة أو التلميح أو الغمز أو الاحتكاك المقصود، إعطاء المرأة رقم الهاتف أو فتح باب السيارة أو مطاردة سيارة المرأة كي تتوقف.
إن فئة قليلة من المستهترين بقيم المجتمع تسيء للمجتمع كله، ولن يردع هذه الفئة القليلة الشاذة إلا سن نظام قاس ورادع وتطبيقه دون محاباة أو شفاعة.
و«إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».