محمد المهنا أبا الخيل
منذ أن انتهت عمليات الحرب العالمية الثانية , بدأت في مختلف دول العالم معارك بينية بين الدول المستعمِرة والدول المستعمَرة للتحرر من قبضة الاستعمار، وكذلك بدأت حركات انفصال أو اندماج بين بلدان وأقاليم مختلفة , استمرت بعض هذه المعارك سنوات وبعضها حُسم بوقت قصير, ومنها تشكّل العالم بدوله المعروفة اليوم, إلاّ أنّ بعض المناطق في العالم القديم والذي يتمثل في آسيا وأوربا وأفريقيا استمرت ملتهبة بعد حقبة السبعينات من القرن الماضي, في حين استقرت الأحوال في بلدان العالم الجديد والذي يتمثل في الأمريكتين وأستراليا.
النزاعات المسلحة في العالم القديم في معظمها هي نزاعات فئوية أو قومية بعضها تغذيها خلافات أو طموحات تاريخية، وبعضها تغذيها ميول استقلالية مبنية على مصالح اقتصادية وبعضها تغذيها طائفية دينية، وكان نصيب الشرق الأوسط من تلك النزاعات نصيب الأسد, أهمها هو النزاع العربي الإسرائيلي والذي يعزى له كثير من المشاكل التي تواجه المنطقة، وبعد قيام الثورة الإيرانية وتأسيس دولة ولاية الفقيه، أصبحت الأطماع الإيرانية تشعل الحروب والنزاعات في عدة مناطق من الشرق الأوسط، وتتضافر أطماعها مع الخطط الإسرائيلية والرامية إلى تقسيم الدول العربية المحيطة بها إلى كيانات أصغر، حتى يسهل على إسرائيل زرع الفتن بها مما يميت الرغبة العربية في تحرير فلسطين أو بعض منها, وهذا الأمر بات ملاحظاً بوضوح بعد الغزو الأمريكي للعراق وتفتيته لمكوّنات فدرالية, حيث نعاصر اليوم الرغبة الكردستانية للانفصال وتكوين دولة قومية للأكراد في شمال العراق.
في الجانب الآخر نرى دول العالم الجديد والتي تكونت معظمها من مهاجرين قدموا من عدة خلفيات ثقافية ودينية وعرقية، أكثر استقراراً وأقل ميْلاً للنزاعات المسلحة بينها، مما أتاح لها الفرصة في التنمية والتطور جعل بعضها تقود العالم اقتصادياً وتنمية معرفية وعلمية، وعلى المدى البعيد ستستمر هذه الدول في تحقيق معدلات نمو تجعلها أكثر جذباً لمزيد من المهاجرين المتميزين في بلدان العالم القديم وبالتالي تكوين تراكمية حضارية ثرية .
العالم القديم سيستمر في التشظي من دول شاملة إلى مكونات أصغر، حتى أنّ بعض الدول الأوربية والتي حاولت أن تتحد في كيان أكبر، باتت تعاني من رغبات انفصالية، فبريطانيا ربما تفقد المكوّن الأسكتلندي، وأسبانيا ربما تفقد إقليم الباسك، حتى إيطاليا ربما تفقد إقليم فنيتو , هذا إلى جانب أن بلداناً مثل الصين و روسيا والفلبين وتايلاند والتي لازالت تتماسك بقوة الإرادة العسكرية والحكم الشمولي، ستكون عرضة للانقسام لأكثر من مكوّن متى تحققت الإرادة الجمعية لمكوّناتها الصغيرة.
المقال هذا يقدم تصوراً لما يمكن أن يكون الجاذب الحقيقي لتكوين الكيانات السياسية الكبيرة, حيث فشلت الشمولية القومية وفشلت الشمولية الدينية، وفشلت الشمولية الاجتماعية في تكوين كيانات سياسية مستقرة، بالرغم من صياغة دساتير جامعة وحماية عسكرية للكيان السياسي , هذا التصور هو بملاحظة استقرار دول العالم الجديد، والذي يعزى لأربعة عناصر أساسية .
1- ضعف الانتماء العرقي والقومي والديني كجامع للمكونات الاجتماعية ونشوء الوطنية كشعور يحمي الفرد .
2- انتفاء المرجعية لحقوق تاريخية لأيّ مكون اجتماعي بالرغم من وجود مكوّنات أصلية تدعّي أهلية لحقوق أميز.
3- اعتماد الحرية في الخيارات الحياتية كمؤسس للمجتمع وتغييب أي نزعة للسيادة الفكرية والتسلط .
4- اعتماد المواطَنة على تحقيق القيمة المضافة للنشاط الاجتماعي للفرد .
لذا أجد أنّ الاستقرار السياسي المستدام لأي بلد سيكون بوضع تلك العناصر في أساس الدستور السياسي للدولة , وهو ما سيحقق الاستقرار والتعايش مع البلدان المجاورة , اجترار القومية والعنصرية والطائفية الدينية وغيرها من محصلات التكوين للمجتمعات، لن يقود أي مجتمع إلى استقرار سياسي دائم إلا بسيادة عسكرية قسرية للمجتمع، وهذا أمر محال على المدى الطويل.