د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** للإنسان عينان للإبصار المباشر، وثمة عينٌ ثالثة تسمى «الغدة الصنوبرية» ترى المجرد؛ فتربط الجسدَ بالروح، والملموس بالمحسوس، والواقع بالمتخيّل، وسبق أن كتب صاحبكم مقالًا عن الذاكرة الوهمية أو الكاذبة (17 أغسطس 2017م - الجزيرة) وأشار فيه إلى دورها في تقديم الظنون على الحقائق وتغليب التوقعات على المعطيات، والرابط بين العين الثالثة والذاكرة الواهمة هو الكذب أو التكاذب؛ فللمرء عينان فقط،وما يتجاوزهما يتخلّق بأشكال أخرى تتصل بالعالم «الماورائي» الذي لا ننكر وجوده وقوة تأثيره لكننا لا نجزم بصدقه وموثوقيته.
** نلتقي بأناسٍ يفترضون في ذواتهم قدراتٍ أخرى تخرجهم من عوالمنا الاعتيادية فيزعمون ملائكيةً ونورانيةً تقفز بهم إلى افتراض مغايرتهم للمجموع ورفض مسايرتهم له، والأمر يخصهم ، وهم - في الأعمِّ - لا يفصحون عن سرائرهم إلا لقلة يظنون أنهم سيصدقونهم، والقارئ في التجارب المنشورة لذوي العيون الثالثة لا يُفاجأ باختلاق وجود هذه العين في جباههم وارتحالهم الفضائي نحو عوالم غريبة تفصلهم عن مدارهم البشري، وإيمانهم بقوى خارقةٍ تضفي عليهم ما ليس فيهم، وربما ادّعوا أنهم قادرون على كشف السُّدم ورفع الحجب، ومعظمهم ممن يعشقون العزلة ويفرُّون من العالم الطبيعي المليء بالمصاعب والمتاعب.
** في صبانا كان لنا صديق طيب يزعم أنه يلتقي بجِنيَّةٍ كل ليلة في «حوش» منزلهم الطيني، وما كنا نصدق وإن أذنَّا لخياله أن يحلق، كما اقتنع ثانٍ بإمكانه رفع أجسامنا في الهواء بقراءة تراتيل محددة، وجاريناه لنكشف له ألا ظلَّ لهذا الفراغ الذهني، وجاء المهتمون بالطاقة وانعكاساتها مقتنعين أنهم قادرون على التحكم النفسي والبدني من بعد، وباتت الخرافة تلد الخرافة، ولا فرق بين نمطَيْ «الراقي» و»الطاقي» المنطلقَين من افتراضات لا ترتكز على إيمانياتٍ متجذرة ومعلوماتٍ متيقنة.
(2)
** يظل هؤلاء - وإن آذوا سواهم بأوهامهم - قلةً يستطيع الواحد اجتنابهم، إذ ليس أسوأ في التعامل الإنساني ممن يحيون توحّدًا أشبه بالعزلة مدَّعين الافتراق عن مجتمعهم لعدم إيمانهم برقيِّه أو تلاؤمه مع مستوياتهم الذهنية، ولأنهم ليسوا كثرةً فمن اليسير فرزُهم والنأي عنهم، لكن الأسوأ منهم من يخلقون الوهم ويُشيعونه ويتبعهم من يصدقونهم ويصفقون لهم فتختل لديهم معادلات المحاكمة والحكم، والتفكير والاستنتاج.
** أتاحت الوسائط الرقمية والمتغيّرات المتتابعة صوتًا وصيتًا لمتداخلين ومتداخلات صاروا خبراء وخبيرات ومفتين ومفتيات ومحللين ومحللات وخائضين وخائضات، ولم يعد التخصص والخبرة والسمعة مهمةً لمن يستضيف أو يُستضاف،وبهم ومنهم ومعهم كثر الهرج والمرج، وانطلقت الوسوم والرسوم، وهو ما يعوق حراك المواطن ومسيرة الوطن، وصارت العيون الثالثة خارج دوائر الخيال والمحال فاختلطت الأوهام بالأوهام ولم يعد معظم الناس يدرون بمن يحتفون ومن يتجاهلون ومن يلفقون ومن يوثقون.
(3)
** العينُ تهدي ولا تهذي.