د. خيرية السقاف
غالباً ما يضطر المرء لأن يخض الإناء قبل أن يحتسي منه ليمزج قوام اللبن الذي فيه..
ويفعل ذلك بكل ما في بيته حجرة حجرة, يقلب أثاثها, يبادل بين مواقعه, يزيل بعضاً مما قدِم, أو انكسر, أو خُدِش, أو بُعج, أو لم تَعُد له حاجة, فيخرج ما لا فائدة منه, ويضيف إليه قطعاً جديدة, تسد حاجات عديدة, وإن كانت شتلات زهرٍ, أو شجرٍ مُنضِّر خَضِرٍ..
فإن لم يكن الاستعمال هو الحاجة, تكون النفسُ هي المحتاجة ..
وكما إنّ المرء بحاجة لأن يحتسي ما يمده بالغذاء, والماء, للصحة, والنشاط..
والبيت يحتاج إلى ما يجعله مأوى راحةٍ, وسكينةٍ, ومعاشٍ هنيءٍ..
فإنّ الأوطان بالتأكيد تحتاج إلى حركة صياغات تجديدية, وتأسيسية, وتأثيثية, وتجميلية, لتكون له كذلك فهي البيت الكبير للإنسان..
ويتحقق لها ذلك كما يتحقق للبيت الصغير فيها بنقض بائد, وإضافة فائد, وتلميع كالح, وشحذ فالح, لتأخذ في معمعتها بالجديد ليفيد, وبالبائد ليندثر, وبالحاضر ليتفاعل, وللقليل ليكثر, وللمضمحل لينمو, ويثمر داخلياً بأهلها, وخارجياً مع الأبعد منهم وعنهم, فهي سُنَّة الحياة, وقضاء الخالق في عمار كونه, بربط خلقه ببعضهم..
ولأننا في بيتنا الكبير نعيش حالة التجديد, والإضافة, والتطهير داخلياً, فإننا نطبق هذا النهج الفعّال في هذه المرحلة المتوهجة..
ونفعل مع من في الخارج بعيداً عنا, وليس منا..
نمد الجسور, ونبتكر العلاقات, ونقترب من البعيد, ونفصل بين الأسلاك, وندرك مواقع الأوتاد, ومدى الفنارات, واتجاه البوصلة, ندمج المتقاطع, ونذيب الجليد, ونوقذ الجذوة, ونحفر الجدول, ونطلق الأجنحة, لنأتي بشمس تسطع في المدى في بيت كبير بحجم الوطن يتلألأ حركة, وحيوية, وابتكاراً, وإنجازاً, وزرعاً, وتمكيناً..
ومستقبلاً يلوح بالنور, والفرح, والسلام, والسكينة , والثمر.