سلمان بن محمد العُمري
من العبارات الجميلة التي ما زالت راسخة في الذهن في درس الخط العربي في المعهد العلمي هذه العبارة «من سار بين الناس جابرًا للخواطر أدركه الله في جوف المخاطر». تذكرتها وأنا أقرأ وأسمع من قصص الإحسان والبذل والمعروف من المعاصرين أو من القدامى، وكلها تؤكد أن الخير باقٍ إلى قيام الساعة كما أبلغنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
كم من المحسنين من لا يعرفهم أهل الفضل والمعروف إلا بعد وفاتهم، بل حتى الضعفاء والمساكين لا يعلمون بمن كان يوفر لهم الزاد ويدفع مصاريف الماء والكهرباء حتى انقطعت المصروفات والمعونات بوفاة المحسن فجاءهم من يخبرهم بأن فلانًا هو من كان يقوم على شؤونكم.. وكم من القصص الحميدة والجميلة في هذا الباب لمحسنين آثروا إخفاء صدقاتهم وإحسانهم وكتمان معروفهم حفاظًا على مشاعر الناس وتنفيذًا لوصية الرسول - صلى الله عليه وسلم-، وما أخبرنا به عمن ينفق فلا تدري شماله ما أنفقت يمينه.. وكم من ورثة فوجئوا بأن آباءهم أو أمهاتهم كانوا قائمين على ستر بيوت وكفالة أيتام، ولم يعلموا بذلك سوى من كشوف حسابات أو بعض الإيصالات والحوالات.
وهناك من يبذل الخير في وجوه متعددة النفع، فيقول أحدهم: كان أبي يشتري من الباعة الذين يعرضون بضائعهم أمام المسجد وعلى الأرصفة، وأعرف أنه ليس محتاجًا لها، ثم يبقيها في السيارة ويبعثها مع السائق أو بنفسه لأناس لا نعلم بهم، أهُم من الأقارب أم من الأباعد؟ حتى أني مازحت أمي في يوم من الأيام وقلت لها إن أبي يشتري للبيت الثاني أكثر من حاجات منزلنا، ولم يكن أبي معددًا، واكتفى والدي بالتبسم، وعلمت أنه يوزع الفاكهة عن طريق السائق على العمالة والسائقين في الحي في أوقات لا يرى فيه سائقنا أحدًا.
ومحسن آخر أحس بأن قريبًا له في حاجة، ولكن هذا الرجل المحتاج لديه عزة نفس، ولا يقبل بالصدقة والإحسان عليه، فتحايل المحسن في عمل لا يحتاج إليه، وطلب من قريبه أن ينفذه بمقابل حتى رضي الآخر، وما علم أن قريبه أراد أن يحسن إليه دون أن يمس كرامته أو يهينه.
ومما يروى - أيضًا - من مثل ذلك عن بذل المعروف ما رواه أحدهم عن رجل جاء إلى (بقالة) ليشتري
فقال له: كم سعر الموز
قال البقال: 8 ريالات
والتفاح:10 ريالات
وفي هذه اللحظة دخلت امرأة إلى المحل يعرفها البقال تسكن في الحي نفسه، قالت أريد موزًا.. بكم الكيلو؟
قال البقال: بريالين، والتفاح بريالين.
قالت المرأة الحمد لله..
نظر الرجل الموجود إلى البقال، واحمرت عيناه غضبًا، وأراد أن يوبخ البقال.
انتبه له البقال، وغمز للرجل، وقال: انتظرني قليلاً.
أعطى البقال كيلو موز وكيلو تفاح بـ4 ريالات،
وذهبت المرأة وهي فرحة بهذا السعر، وتقول سوف يأكل عيالي، وسمعوها كيف تحمد الله وتشكره.
قال البقال للرجل الموجود: والله أنا لا أغشك، ولكن هذه المرأة صاحبة أربعة أيتام، وترفض أي مساعدة من أحد، وكلما أردت أن أساعدها لا تقبل، ففكرت كثيرًا كيف أساعدها ولم أجد إلا هذه الطريقة لمساعدتها، وهو خفض الأسعار لها، وأريد ألا أحسسها بأنها محتاجة لأحد، وأنا أريد أن أعمل خيرًا، وأحب هذه التجارة مع الله، وأحب أن أجبر خاطرها!! ويقول البقال للرجل: هذه المرأة تأتي كل أسبوع مرة، والله والله في اليوم الذي تشتري مني هذه المرأة أربح أضعافًا وأُرزق من حيث لا أدري.
يقول الرجل: دمعتْ عيناي، وقبَّلت رأس البقال على موقفه هذا.
كما تدين تدان، ليس فقط في الانتقام؛ كما تدين تدان حين تجبر خاطرًا، وتزيل همًّا، وتسعد نفسًا.. سيأتي اليوم الذي يُردُّ لك جميلك أضعافًا.
إنَّ في قضاء حوائج الناس لذة لا يعرفها إلا من جربها، كما أنَّ فيها من تفريج الكُرب وتيسير الأمور مع الأجور ما لا يعلمه إلا الله. وأختم بما بدأته من عبارة «من سار بين الناس جابرًا للخواطر أدركه الله في جوف المخاطر».
** من «وشم على كف الزمان» د. صالح العايد:
عجبا لمن يصدق ما تسمع أذنه عنك، وتتعامى عينه عما يظهر منك.