حمّاد السالمي
*الكثير ممن راقب ردود الفعل المفعمة بالغبطة والفرح لصدور الأمر الملكي الذي انتصر لحق المرأة في قيادة المركبات؛ كان يتساءل: كيف كان الحال في عهد الملك سعود رحمه الله عام 1960م، الذي انتصر للمرأة وقتها، وكفل لها حقها في التعليم مثل الرجل..؟!
*شهدت المملكة على مدى عقود ستة مساجلات ومجادلات فيما يختص بالمرأة التي هي نصف المجتمع. كانت الوصاية البغيضة على أشدها، وتصل إلى حد مصادرة حقوق المرأة شرعية أو مدنية. لا تتعلم. لا تخرج من بيتها. لا تعمل. لا تقود مركبة ولا غيرها. ليس للمرأة إلا بيتها. بمعنى أنها تولد في قبر على وجه الأرض اسمه البيت، فلا تخرج منه إلا إلى قبر آخر تحت الأرض بعد وفاتها. هذه مفاهيم ليست فقط مغلوطة أو مجحفة بحق النساء اللاتي هن شقائق الرجال؛ ولكنها ظالمة، ولا تنتمي لأي مرحلة من تاريخ العرب والمسلمين عبر عصورهم الظلامية والتنويرية على حد سواء، ولم تعرفها أي أمة على وجه الأرض.
*بهذا الأمر الملكي من ملك العزم والحزم والحسم (سلمان بن عبدالعزيز) نصره الله؛ تنتهي الوصاية الجبرية المتلبسة بالدين، التي كان يفرضها خطاب وعظي من قُصّاص ليس لهم حظ وافر من فقه أو علم شرعي مؤصل.. وصاية ليس على المرأة وحدها؛ ولكن على المجتمع كله..! رأينا كيف جاءت ردود فعل معظم العلماء المتخصصين في هيئة كبار العلماء وغيرها من المؤسسات الدينية والعلمية المعتبرة في البلاد؛ داعمة ومراعية لمصالح العباد والبلاد. الحمد لله.. فقد انزاحت الغمة، وسقطت ورقة قميئة طالما استخدمها أعداء المملكة من عرب وعجم للضغط علينا، وللتسفيه والسخرية منا في أحيان كثيرة.
*هل هذه أول مرة تقود فيها المرأة السعودية المركبة في بلادها..؟
*تناقل الناشطون على وسائط (السوشيال ميديا)؛ رواية عن المؤرخ السعودي (عبدالكريم الحقيل) الذي قال: كان هناك في عام 1378هـ في المجمعة؛ شخص كفيف البصر، وله ابنتان وسيارة تقودها إحداهما، والثانية تخدمه، وكان يأتي ما بين حين وآخر بمنتجات ليبيعها في سوق مدينة المجمعة، فاستغرب من في السوق.. كيف تقود السيارة امرأة، واعتبروا ذلك منكرا..! وذهبوا به وببنتيه وسيارته لقاضي المجمعة الشيخ: (علي بن سليمان الرومي) رحمه الله .فلما استمع لأقوال كفيف البصر وظروفه ومدى حاجته لأن تقود ابنته سيارته؛ أصدر أمرًا بالسماح لها بقيادة السيارة، وأفهم أهل السوق؛ بأنه لا يوجد نص شرعي يحرم قيادة المرأة للسيارة.
*قلت: وهذا الأمر الشرعي من القاضي الرومي رحمه الله؛ يعد أول رخصة قيادة تُعطى لامرأة سعودية قبل أكثر من ستين سنة..! ومن بعد ابنة كفيف المجمعة هذه، وطيلة العقود الفارطة؛ شهدنا ورأينا في مدن صغيرة وقرى حول المدن الكبيرة في شتى مناطق المملكة مئات بل آلاف الفتيات اللاتي يقدن المركبات دون عوائق تذكر، لا رسمية ولا اجتماعية ولا خلافها، وهن بذلك كن وما زلن يتحدين خطاب الوصاية الوعظي المتطرف طيلة هذه العقود، وهن من يستحققن قبل غيرهن إصدار رخص قيادة لهن، حتى يواصلن خدمة أسرهن في المدن الصغيرة والقرى والبوادي.
*ها قد تحقق لنصف المجتمع حقه في القيادة والريادة، وعُزز هذا القرار الشجاع الحكيم، بتوجيه ملكي لتنظيم وإعداد قانون يجرم التحرش ويعاقب عليه، ومهما كانت ردود الفعل التي طغت عليها الإيجابية بشكل واضح؛ فإنه ليس من المروءة أن نفتح صفحات الماضي للعتاب والتندر وتذاكر المواقف السلبية، ومن ثم نشر غسيلنا على رؤوس الأشهاد. علينا أن نرحب بتراجعات المتراجعين، وننتظر أوبة المترددين. أذكر أني كتبت في هذه القضية مطالبًا بحق المرأة في قيادة المركبة. كان ذلك في 17 محرم العام 1420هـ تحت عنوان: (في خضم النقاش حول ما لها وما عليها من حقوق.. أين هي المرأة السعودية)..؟
*كانت الحدة في تلك الأيام شديدة، وكانت ردود الفعل عنيفة، ونالني الكثير من الأذى بعد نشر المقال، من متطرفين لا بضاعة علمية لهم إلا ركوب موجة التطرف لا أكثر. وعاتبني ثم قاطعني أصدقاء ومعارف كثر. أحد هؤلاء؛ خطيب جمعة كان يخالفني ولا يشاكسني حتى قرأ المقال. بعد ذلك أرعد وأزبد على الهاتف، وسخر من طرحي، ثم قال: (هذا الأمر على جثتي يا حمّاد وسترى)..! لم نعد نرى بعضنا طيلة 19 عامًا، إلى أن صدر الأمر الملكي الحازم الحاسم في قضية لم تكن قضية، لولا أننا جعلنا منها قضية. جمعتني وهذا المعرفة الصدفة في مناسبة. وقف أمامي ووقفت أمامه برهة. ابتسم فابتسمت. ثم تعانقنا وجلسنا معًا على سفرة الطعام ونحن لا نسخر إلا من شيء واحد: كيف جهلنا على بعضنا؛ وتباعدنا طيلة هذه المدة؛ لأمر لا يستحق منا هذا كله..!
* كم من موقف في حياتنا يفرقنا عن بعضنا؛ بينما هو يسير عكس اتجاهنا. هو إلى الخلف.. إلى الماضي، ونحن إلى الأمام.. إلى المستقبل. لماذا نرهن أنفسنا لماضينا؛ فنصالح ونعادي على مواقف ليس لها حضور في مستقبلنا.
* تعيش المملكة مرحلة تحديثية نهضوية غير مسبوقة في تاريخها: (برنامج التحول الوطني 2020، ورؤية السعودية 2030)، وما تبع ذلك من إصلاحات إدارية وتنظيمية في شتى المجالات، منها ما يضمن حقوق المرأة، ومحاربة التحرش، وتوطين الترفيه إلى جانب التقنية.. كل هذا يضع السعودية الجديدة بقيادة (الملك سلمان) وولي العهد (الأمير محمد بن سلمان) على بوابة المستقبل. إن الدخول في المستقبل الواعد؛ لن يتحقق بدون هذه الإصلاحات البناءة، وبدون تعليم معرفي عصري قائم على العلم لا الوعظ.
* مما يؤثر عن الفيلسوف (آدم سميث) قوله: (العلم هو الترياق المضاد للتسمم بالجهل والخرافات).
* قلت: إن تقديس الجهل وتقديم الجهلة على غيرهم؛ هو أقصر الطرق لتسويق الدجل والخرافات في المجتمعات.
* هيّا ندخل إلى المستقبل، مع السعودية الجديدة؛ التي تحفظ حقوق مواطنيها ومواطناتها، وتوطن العلم والمعرفة، وترسخ مبدأ القانون الذي يوفر العدالة في كافة مناحي الحياة.