د.عبدالله مناع
لظروف عائلية حميمية.. كاد أن يفلت مني صيف هذا العام، فلا أذهب إلى منتجعي المتواضع والبسيط في مدينة (ديفون) الفرنسية الصغيرة الحجم والقليلة السكان على أطراف الحدود الفرنسية: الشرقية الجنوبية، والتي تبدو لشدة التصاقها بالمدن السويسرية الشهيرة كـ(جنيف) و(نيون) و(كوبيه) و(لوزان)، وكأنها سويسرية بأكثر منها (فرنسية) لولا لسانها وعلمها ومقاهيها ومطاعمها، لكن نداءات الأصدقاء الأعزاء عبر هواتفهم من نقطة تجمعهم الصباحية في مقهى (شارلي) - كانت تعمل بنجاح على انتزاعي من تلك الظروف - وهي تخاطب فيَّ حبي لـ(المطر) وعشقي لـ (الغيوم).. لأدرك ما تبقى من شهور الصيف.. حتى ولو انقضى منها ما يقارب نصفها، لأرى (ديفون) مجدداً.. وأرى سهلها وجبلها وأشجارها الكثيفة وبحيرتها الجميلة وشوارعها النظيفة وأرصفتها الملونة و(نافورتها) الأجمل والأكمل.. التي تتوسط مدخلها، والتي اعترض على صوتها أحد الزملاء - الصيف الماضي - في مفاجأة لم يتوقعها جمع الأصدقاء السعوديين في (المقهى).. بحجة أن صوتها يزعجه!! لأعلم - بعد وصولي - بأنه كتب هذا العام لـ(محافظ) المدينة الفرنسي.. خطاباً يطالبه فيه بتخفيض صوتها.. إلا أن (المحافظ) لم يستجب لطلبه، وخيراً فعل: إذ إن طلباً متخلفاً كهذا ربما لا يستحق قراءته، فضلاً عن الاستجابة له!!
بعد وصولي المتأخر إلى (ديفون).. كان عليَّ أن ابكر بالذهاب إلى (مركاز) الأصدقاء السعوديين بمقهى (شارلي).. للسلام عليهم، وشكرهم على هواتفهم التي انتزعتني من (جدة) وصيفها القائظ في شهر (اغسطس).. فلم أجد احداً في تلك الساعة المبكرة - الحادية عشرة صباحاً!! أو أن لهفتي للقائهم جعلتني أبكر في الذهاب إلى (المقهى) بأكثر مما يجب، ولكنني وجدت (مركاز) الأشقاء الكويتيين، الذي يشغل ثلث المقهى الخارجي تقريباً.. عامراً باعضائه من رجال الأعمال والمسئولين السابقين الكويتيين، وقد تصدره كالعادة الشيخ احمد التويم: الأكبر مقاماً وسناً بينهم لأسلم عليه ومن معه، وأحييهم جميعاً.. وأحيي فيهم (المبادرة الكويتية) لحل الأزمة القطرية، التي استقبلت خليجياً وعربياً ودولياً أفضل استقبال، والتي كان متوقعاً أن تنهي الأزمة بـ(كاملها) خلال شهور الصيف.. لأنها صدرت عن أمير الكويت - الشيخ جابر الأحمد الصباح - صاحب السجل التاريخي الدبلوماسي المشرف في مواجهة الأزمات السياسية الكبرى، وتقديم الحلول الناجعة لها كـ(أزمة) الحظر النفطي على الدول الغربية الكبرى الذي أرادته الدول العربية بعد عدوان يونية 67 الإسرائيلي على مصر والأردن والضفة الغربية، فكان رأيه أن ذلك سيصب في النهاية في مصلحة اسرائيل بإضعاف القدرة العربية على تحرير الأراضي التي أخذت بالقوة والعدوان.. فكان إلغاء (الحظر) هو الذي مكن من نجاح قمة الخرطوم في اغسطس من ذات العام بدعمها المالي السخي لمصر والأردن، الذي حقق بعد ذلك نصر أكتوبر العربي عام 1973م ولأول مرة في تاريخ الحروب الطويلة مع إسرائيل، إلا أن المملكة عادت اليه منفردة بعد الحرب حتى تم الجلاء عن (سيناء)، ولذلك كان متوقعاً أن تحرز المبادرة الكويتية ذات النجاح، خاصة وأنها بين (أشقاء) وليست بين (أعداء) لولا الإصرار القطري على ما تسميه بحق السيادة على قرارها، وهو ما عطل المبادرة الكويتية كل هذا الوقت.
بعد سويعة مع الأشقاء الكويتيين كان الأصدقاء السعوديون قد توافدوا على (مركازنا) لأقفز إليهم، ونغيب معاً لدقائق في السلامات والعناق والترحيب.. لأسألهم - بعد أن انتهت موجة العواطف والسلامات - عن أخبارهم في (ديفون).. ليقول لي أحدهم: إن (المحافظ) دعا السعوديين - كما دعا الأشقاء الكويتيين من قبل - لحفل استقبال على شرفهم في الثانية عشرة من صباح يوم غد - بمقر المحافظة أو الأمانة - وإنني مدعو بطبيعة الحال إلى ذات الحفل مثلهم، ولكنني اعتذرت؛ إذ إن ملابسي ما تزال في حقيبتي، وإن مجيئي إلى (المقهى) في اليوم الأول من وصولي ليس مقياساً، فالذي حملني على القدوم إلى (المقهى) وبهذه السرعة هو المحبة لـ(أصدقائي) الأعزاء في (مركازنا) بالمقهى، والتقدير لاتصالاتهم الهاتفية، التي انتزعتني من (جدة) وحفزتني على القدوم إلى (ديفون)، لأعلم فيما بعد أن أبرز ما كان في حفل الاستقبال الذي أقامه (المحافظ) هو طلبه الإسهام من الجالية السعودية - في ديفون - في إنقاذ ثمانين شجرة من أشجارها مهددة بالسقوط؛ نظراً لحالة التسوس التي ضربت جذورها، وقد استجابت الجالية لطلبه فيما بعد بـ(مساهمة) سياحية بأكثر منها (خليجية).!!
على أي حال.. لم يخل صيف (ديفون) على قصر أيامه هذا العام من مفاجآت أذهلتني بقدر ما أسعدتني: كـ(تعرفي) من قبل على السيد (ديكسي).. (المغني) وعازف الجيتار الإيرلندي السبعيني الذي ما زال يعزف ويغني إلى يومنا هذا رغم عدم تركه (غليونه) منذ خمسين عاماً، وتعرفي على من أسميته بـ(كفيف ديفون) الذي يتريض صباح كل يوم من العاشرة إلى الحادية عشرة صباحاً بـ(السير) على قدميه في شارع منزله: جيئة وذهاباً.. دون أن يساعده أحد غير عصاه وسمعه، ليفاجئني صيف هذا العام بـ(نادل) سعودي الجنسية من أب سعودي وأم فرنسية (!!) يعمل في مقهى ومطعم (الميني جولف) للأطفال صيفاً ويدرس بإحدى الجامعات الفرنسية شتاء كبقية شباب العالم، وقد أسعدني ذلك حقاً، كما أسعدتني مفاجأة اكتشافي بأن مقهانا الذي نلتقي فيه كل صباح قد سُمي بهذا الاسم (شارلي) تخليداً لاسم الكوميدي العالمي البريطاني الشهير (شارلي شابلن) الذي رحل عن دنيانا عام 1977، وهو ما ذكرني بـ(الكومديان) العربي الأشهر الأستاذ نجيب الريحاني، الذي رحل شاباً في الأربعينيات من عمره بعد فيلمه الرائع: (غزل البنات) الذي قاسمته بطولته (سندريلا) الشاشة العربية في الأربعينيات الفنانه الكبيرة: ليلى مراد.. ومشهد الختام الذي مات في أعقابه وهو يذرف دموعه بعد أن استمع إلى موال الختام في رائعة الأستاذ محمد عبدالوهاب: قصيدة (عاشق الروح).. التي يقول فيها: (وعشق الروح مالوش آخر/ لكن عشق الجسد فاني)..!!
ليزداد حبي لـ(مقهانا)، وتعلقي به.. فقد أصبح لحبه أسباب.. ولتعلقي به أعظم المبررات..!!