الدمام - فايز المزروعي:
أكَّد خبير في السياسات النفطية والبيئية، أن البدء في وضع خطط لتصحيح الأسعار المحلية للطاقة، سيساعد في كبح النمو السريع والمتزايد في الاستهلاك المحلي للطاقة، وتعزيز وضع المالية العامة. وقال رئيس مركز السياسات النفطية والبيئية والتوقعات الإستراتيجية الدكتور راشد أبانمي لـ»لجزيرة»: إن الآفاق تشير إلى استمرار الاستهلاك المحلي للطاقة في الارتفاع، وعلى نحو حاد، وهذا ما يؤكده معظم المراقبين وكذلك صندوق النقد الدولي، حيث إن المملكة تعد من أعلى البلدان على مستوى العالم، بل إنها تتبوأ المركز الأول من حيث مستوى استهلاك الفرد للطاقة، ومن أحد الأسباب المهمة في ذلك انخفاض أسعار الطاقة من خلال الدعم الحكومي للطاقة الذي حفز الكثير على الاستثمار في الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة، وتصاعد وتيرة الاستهلاك المحلي للطاقة المستمر، وإذا ما استمر نمو الاستهلاك المحلي بالمعدلات الحالية، فسيتجاوز 20 في المائة من الناتج في عام 2018م.
وأكَّد أبانمي أن الدور المتعاظم للمملكة في نمو الاقتصاد العالمي، واعتماد العالم على صادرات النفط السعودي يؤثر بشكل مباشر باستمرار الاعتماد الاقتصاد السعودي على العائدات المالية النفطية من خلال الإنفاق الحكومي الذي يعد المحرك الرئيس للاقتصاد، وبالتالي بتطورات أسواق النفط العالمية، أي أن النفط سيظل المصدر الرئيس للدخل وللمخاطر أيضًا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن موضوع استهلاك المملكة المتزايد من المنتجات البترولية محليًا وبنسب عالية تفوق المعدلات العالمية، لا شك بأنها ستؤثر على كمية النفط المصدر للعالم، وبالتالي يؤثر في ضمان الاستقرار العالمي، وكذلك انخفاض الموارد المالية للمملكة الذي سيؤثر سلبًا في الإنفاق الحكومي، كما أن له تأثيرات سلبية في الانبعاثات الكربونية التي تلتزم المملكة بتخفيض نسبة كمية الغازات الدفيئة المنبعثة من نشاطات الإنسان إلى المستويات ذاتها التي يمكن للأشجار والتربة والمحيطات امتصاصها بشكل طبيعي، تحت معاهدة باريس التي وقعت عليها معظم دول العالم بما فيها المملكة وأصبحت نافذة، وأنه في حالة عدم التقيد بذلك فإن الدولة تلتزم تزويده الدول الأخرى بالتمويل والمساعدة في التأقلم مع التغير المناخي والانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة، أي أن الاقتصاد السعودي يدور في حلقات متشابكة مركزها النفط بعائداته المالية العالمية، أو بانخفاضها جراء استهلاك النفط محليًا وانبعاثات كمية الغازات الدفيئة».
الاستهلاك المفرط وخطورته على الاقتصاد
وأضاف ابانمي: نظرًا للاستهلاك المفرط في الطاقة وخطورته على الاقتصاد السعودي وإلى حد ما على نمو الاقتصاد العالمي، رأت المملكة أهمية وضرورة الإسراع في إيجاد حلول دائمة لمعالجة مشكلة الاستهلاك المفرط للطاقة وتزايده يومًا بعد يوم، والعمل على ترشيده لكيلا ينعكس سلبًا على الصادرات النفطية مستقبلاً وعلى التزامات المملكة في المعاهدات الدولية المعنية بالتغيير المناخي، ومن ضمن الحلول الناجعة وسريعة المفعول هو رفع أسعار الوقود محليًا، فليحل هذه المشكلة التي نواجهها بتأثيراتها السلبية، لا بد أولاً الاعتراف بوجودها وهذا ما نهج عليه العهد الجديد وذلك بإبراز المشكلات المتراكمة إلى العلن ومن ثم الشروع المباشر بوضع الحلول لجزئياتها وفروعها، حيث إن المشكلة المطروحة الآن هي مشكلة الاستهلاك المفرط للطاقة، ولوضع الحلول لها فإنها تكون على 3 جوانب يتمثل الأول منها في الجانب السياسي الذي يملك القرار وينظم سياسة دعم أسعار الطاقة محليًا خاصة لشرائح الاستخدام العالية كالشركات والقطاعات الحكومية، ويتمثل الجزء الثاني في الجانب الاقتصادي الذي يعمل ويحدد خطورة الاستهلاك على الصادرات النفطية والانبعاثات الغازية والتزام المملكة الدولي، ومعالجتها بإيجاد الحلول لها، أما الجانب الثالث فيتمثل في الجوانب الفنية للمصانع والشركات وجهات الاستهلاك وكيفية إيجاد الآليات التي تحد من استهلاك الطاقة.
ترشيد طوعي لاستهلاك الوقود
وقال رئيس مركز السياسات النفطية والبيئية والتوقعات الإستراتيجية أن الاستهلاك المفرط الذي نواجه الآن هو مشكلة نمت وتطورت على مدى فترة زمنية مما جعلها قشية متشابكة المشكلات، بسبب ظروف كانت ملائمة لنموها، وعليه لا بد أولاً من مواجهة الظروف التي فرضت على المواطن الحاجة إلى استهلاك تلك المادة بهذا الحجم، ومن ثم محاولة وضع الحلول لكل جزئية منها على حدة، أن دعم الأسعار لسلعة ما ومن دون ترشيد أو تقنين وتنظيم صارم هو في نهاية المطاف هدر للأموال والموارد بجميع المقاييس ويذهب إلى غير محله ويزيد في الاستهلاك، لذا فإن إلغاء الدعم على سعر وقود السيارات هو أيضًا من الأولويات لا تحتمل التأجيل، ولكن يجب في الوقت نفسه تعويض المواطن مباشرة ببدل محروقات، وذلك من خلال منحة مالية بواقع تلك النسبة من الارتفاع وذلك كعوض لتكلفة غلاء محروقات خاصة وتضاف لدخلهم الشهري، حيث يتم تعويضهم من خلال شرائح المجتمع بمن فيهم المنتسبون للضمان الاجتماعي وجميع عمال وموظفي الدولة والمتقاعدون وموظفو القطاع الخاص أي لجميع شرائح المجتمع على تحمل التكاليف الإضافية على المحروقات إذا هم اختاروا الاستمرار في استهلاك الوقود بالوضع الحالي، ولكن بالتأكيد سيلجأ معظم تلك الأسر إلى صرف بدل المحروقات ذلك إلى أولويات المعيشة الأخرى الذين هم أكثر حاجة إليها من صرفها على الوقود، مما سينتج عنه بالتأكيد ترشيد طوعي لاستهلاك الوقود، وهذا ما عملت عليه الدولة من خلال حساب المواطن.
الاستهلاك المحلي الأعلى في العالم
وبين أبانمي، أن الاستهلاك المتزايد للطاقة محليًا هي قضية متشعبة لا يتم التعامل معها فقط باقتراح حلول آنية كما يعتقد البعض، بل إنها تكمن أولاً في إيمان صنّاع القرار والمجتمع بوجود قضية مصيرية، ومن هذا المنطلق لا بد لنا الاستفادة من التجارب العالمية في هذا المجال والكيفية المتبعة في حل مثل هذه المشكلات، مؤكدًا أن كل سلعة مدعومة لا تعين على الإرشاد، بل تعين على التبذير والاستهلاك المفرط، وبالنظر إلى المملكة ودعمها للمشتقات النفطية فإن الأمر يزداد تعقيدًا كون أن المملكة تعتمد اعتمادًا شبه كلي على إيراداتها من تصدير النفط للخارج، فالنفط هو المصدر الرئيس لإيرادات الدولة وفي نفس الوقت فإن تكلفة إنتاج البترول متدنية جدًا، مما يجعل الحكومة تبيعه محليًا بسعر تكلفة الإنتاج وهذا يتسبب بخطورة اقتصادية عظيمة تتفاقم يومًا بعد يوم واستنزاف خطير لأهم مادة أولية إستراتيجية وعالمية وقابلة للنفاد، إضافة إلى التزامات المملكة البيئية الدولية وتخفيض نسبة كمية الغازات الدفيئة المنبعثة من الاستهلاك المحلي للطاقة. وأضاف أبانمي: الدعم الحكومي للطاقة يتجاوز 130 مليار ريال سنويًا، وحسب التقارير فإن الاستهلاك المحلي للطاقة يرتفع بمعدل 8 في المائة وهو الأعلى في العالم، وإذا استمر هذا الاستهلاك بهذا المنوال وعلى هذه الوتيرة فسيبلغ استهلاك المملكة المحلي في2030 ثمانية ونصف مليون برميل يوميًا. فالواجب يحتم علينا بسرعة إنجاز أنظمة المواصلات العمومية التي تم الشروع في إقامتها، وتنظيمها لجعلها أقل تكلفة وكذلك تخصيص وزيادة الطرقات المخصصة للنقل العام، الذي سيوفر بدائل ملائمة تجعل الناس أمام خيار التخلي عن سياراتهم الخاصة، التي ستكون أكثر كلفة من تلك البدائل التي تتوافر في أنظمة النقل العام وخدماته، كما أنه ربما وفي وقت لاحق بوضع رسم تنمية موارد مواصلات على رخص تسيير السيارات وفقًا لهيكل متدرج طبقًا لموديل السيارة ومعدل استهلاكها للوقود للحد من انتشار السيارات القديمة أو السيارات ذات الاستهلاك العالي للوقود، كذلك العمل على تخفيض الرسوم الجمركية أو إلغائها على السيارات (الهجينة - الهايبرد) التي تعمل على الكهرباء والبنزين، إلى جانب منع استخدام السيارات الحكومية ذات الدفع الرباعي وشطب السيارات التي يزيد عمرها على 20 سنة والسيارات ذات السعة التي يزيد حجمها على (3000 سي سي) بهدف توفير كلفة استخدام البنزين، ونظيم صارم لاستخدام السيارات الحكومية في العمل الرسمي ومراقبة ومتابعة حركة السيارات الحكومية والحد من كروت المحروقات المجانية والغائها، الأمر الذي يسهم في ترشيد وضبط الاستهلاك المفرط وغير المسؤول، مع أهمية صرف بدل للمحروقات كيلا يتأثر المواطنين من رفع الدعم عن الوقود، حيث يعد أقل المستفيدين من دعم أسعار النفط محليًا.
جهاز رقابي فعال
وأكَّد أبانمي، ضرورة إيجاد جهاز رقابي فعال، يراقب تفعيل الإجراءات المتعلقة بالنفط ومشتقاته التي تتخذها الحكومة على نفسها وشركات المنافع الأخرى المدعومة منذ عقود من الزمن لغرض تحسين كفاءة الطاقة، من خلال البدء التدريجي بإلغاء الدعم الحكومي للوقود عن الشركات كشركة الكهرباء ومؤسسة تحلية المياه، وكذلك رفع الدعم عن اللقيم «الغاز» للشركات البتروكيماوية التي تستهلك كل ما تنتجه المملكة من الغاز الذي يبلغ حوالي مليونين ونصف المليون برميل مكافئ من البترول في اليوم، فليس من العدل أن تأخذ شركة محلية (اللقيم) بالسعر المدعوم، وتبيع إنتاجها داخليًا بالسعر العالمي».
وأكَّد رئيس مركز السياسات النفطية والبيئية والتوقعات الإستراتيجية، أن المملكة بدأت بالفعل خطوات لاحتواء نمو الطلب المحلي على الطاقة وزيادة المصادر البديلة للطاقة، إِذ تركز هذه التدابير على جانب الطلب في الأساس على زيادة كفاءة الطاقة من تحسين المعايير المنظمة للبناء واستخدام الأجهزة الكهربائية، ولقد قطعت مشوارًا في هذا المضمار. أما من ناحية العرض، فالمملكة تسعى حاليًا لتنويع مصادر الطاقة عبر مواصلة تطوير إنتاج الغاز والاستثمار في الطاقة الشمسية لتلبية الاحتياجات المحلية، ووفقًا لخطة المملكة في الأجل المتوسط، تبين موافقتها على أن اعتبار زيادة أسعار الطاقة خيارًا ملازمًا لخيارات تطوير وسائل النقل العام، وهذا بالفعل ما أكدته هيئة تطوير مدينة الرياض مؤخرًا حول أن رفع أسعار الوقود قد يكون ضمن تلك الحلول التي تسهم في اتجاه شرائح كبيرة من سكان العاصمة، وتحفزهم لاستبدال التنقل بالمترو والحافلات، عوضًا عن التنقل بالمركبات، ولا سيما أنه سيحقق الأهداف الإستراتيجية للنقل العام في تقليل هدر الوقود والمحافظة على البيئة.