لبنى الخميس
صادف صباح الـ26 من سبتمبر يوم ميلادي السابع والعشرين، فقررت أن أبدأ اليوم بممارسة شيء أحبه رغم بساطته، بشرب أول كوب قهوة في عمر الـ27. لا شيء مختلف في نشوة ارتشافه.. ولذة مذاقه.. إلا أن مقهى (......) قرر أن يهديني إياه مجاناً في يوم ميلادي!.
هذا الكوب الجميل.. أحيا في داخلي العديد من الأسئلة حول «المرّات الأولى في حياتنا».. أول محاضرة جامعية.. أول خطاب تلقيه.. أول زيارة لمدينتك المفضلة.. أول جهاز جوال تقتنيه.. أو فشل تتجاوزه.. ونجاح تتذوقه.. وأول مرة يدق قلبك فيها.
تلك الأحداث.. وهؤلاء الأشخاص.. الذين حظوا بامتياز وحصرية التجربة الأولى في حياتك.. ساهموا بتشكيلك بشكل أو بآخر.. ورسم معالم وتوقعات المرات القادمة عن ذات التجربة.. فكثير من توقعاتنا تولد من عمق تجاربنا. المرة الأولى تشبه المرأة القوية الذكية.. التي ترفع السقف عالياً وتنهك من يأتي بعدها من النساء.. لها أيدٍ خفية في نجاحاتك وإرث غير معلن في إخفاقاتك. فماذا صنعت المرّات الأولى في حياة بعض المشاهير والمؤثرين؟.
لاري كينج ملك الحوار وسيد الكلمة.. أجرى أكثر من 30 ألف مقابلة مع فنانين وزعماء ورؤساء دول، لم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة أول مرة وقف فيها أمام المايك في إذاعة ميامي. فاضطر مهندس الصوت أن يرفع الموسيقى.. (صوت موسيقى) ويخفضها.. وكرر ذلك ثلاث مرات على أمل أن يلتقط إِشارة بدء الكلام.. لكنه لم يفعل، فدخل عليه مدير المحطة وهو يستشيط غضباً، وقال «إنها مهنة تواصل!» جملة غيرت مفاهيمه وهدأت من روعه.. حتى نطق أخيراً وخط السطر الأول في مسيرة إعلامية امتدت أكثر من 60 عاماً.
أما في صيف 1951 وقف شاب في مقتبل العمر يدعى عبدالحليم حافظ لأول مرة على أحد مسارح الإسكندرية، أمام جمهورها الغفير، وبدأ يغني «صافيني مرة وجافيني مرة.. ولا تنسانيش كدا بالمرة»، وبدلًا من التصفيق والتشجيع، قذفه الجمهور بالطماطم، وطالبه بأداء أغنيات لموسيقار الجيل محمد عبد الوهاب، والتوقف عن أداء مثل هذه الأغنيات التي تعتبر انحدارًا في المستوى الذوق الفني، آنذاك.
أما أشهر كاتبات القرن الحادي والعشرين.. فتذوقت مرارة الرفض لأول مرة .. 12 مرة.. حينما رفضت دور النشر طباعة ونشر روايتها الأشهر هاري بوتر.. وأهداها أحد ملاك هذه الدور نصيحة.. توقفي عن كتابة هذه الروايات الخيالية.. والتفتي قليلاً إلى الواقع.. وحينما التفتت بعد سنوات كان واقعاً مشبعاً بالشهرة والنجاح.. فرواياتها باتت حمى تصيب المراهقين حول العالم وتدفعهم للوقوف في طوابير طويلة لاقتنائها فور صدورها.
المرات الأولى مهمة في حياتنا.. وكذلك هي كل المرات الأولى في حياة البشرية.. أول قدم وضعت على سطح القمر في عام 1969.. وأول رحلة جوية بين نيويورك وباريس والتي استغرقت وقتها 33 ساعة واعتبرت معجزة الطيران آنذاك، أول مرة أطل فيها ستيف جوبز على جمهوره وهو حامل بيده آيفون.
المرة الأولى حالة مراوغة.. قد تفتح شهيتك لخوض التجربة نفسها مرات عديدة.. نظير جمالها.. وكثافة أحاسيسها.. ولكن المنتصر.. المحنك.. والسعيد.. هو القادر على أن يجد ثم يعيش سحر ودهشة المرة الأولى كل مرة.. وهو يحتسي قهوته المفضلة.. ويجلس من أقرب أصدقائه.. ويتمشى في شوارع مدينته المفضلة.. أو يمارس عمله بشغف.
قالي لي شخص حكيم يوما: إذا أردت أن تقيس حجم المغامرة وعمق قيمة الاكتشاف في حياة الناس.. أسألهم.. كم مرة يمارسون «المرة الأولى» في الشهر؟ أو العام؟.. يزورون مدناً جديداً.. يجالسون أشخاصاً مختلفين.. يقدمون على تجارب مختلفة.. قبل أن تكبر كرة ثلج الروتين وتبدأ بالتهام كل التجارب الجديدة وتحولها إلى مساحات آمنة ودوائر مريحة.. خالية من الدهشة ومفرغة من الاكتشاف.
المرات الأولى قد تبدو عظيمة.. مدهشة.. وخالدة.. لأنها خالية من ضغط الانتظار.. وخيبة التوقعات لكن الأهم هي الصفحة التي تليها.. والفصل الذي يعقبها.. لا تقع أسيراً لجمال المرة الأولى.. بل اصنع من سطرها الأول قصة لا تنسى.. ومرات لا تنتهي.