عبدالعزيز السماري
تداولت رموز اجتماعية فكرية ودعوية مقولة للعلامة ابن القيم، صاغها قبل أكثر من سبعة قرون، وهي «الفتوى تتغير بتغير الأزمنة والعوائد والنيات والأحوال والأماكن والأشخاص». وهو نص عميق، ويحتاج إلى قراءة وتفكيك من قِبل المختصين؛ فالمعنى الظاهر يقول إن الفتاوى تتغير بتغير مختلف جميع الأحوال، وهو ما يثير أكثر من سؤال، ويرفع أكثر من علامة استفهام عن ذلك الصراع الدامي الذي عشنا فيه لعقود.
من الواقعية أيضًا أن نعترف أن الفكر النقدي والفلسفي تجاوز الحضارة العربية بعد انقطاعها عن العالم لعدة قرون؛ وهو ما أدى بنا إلى أن نعاني في هذا العصر من ظلامية وأمية معرفية في فهم النصوص والأشياء المستجدة، لكن يبدو أن النور بدأ في التسلل من نهاية النفق. ويبدو أن رياح الأنوار ستأخذ طريقها إلى العقل العربي واستقلاليته وفكره.
سيظل جاك دريدا الناقد الأشهر للنصوص ولتفكيك معانيها فيما يعرف بالتفكيكية، وهو نهج معقد ودقيق لكيفية قراءة وفهم طبيعة النصوص المكتوبة. وأعترف أن ذلك خارج تخصصي، لكن أتكلم هنا من جانب معرفي بحت، همه الأول البحث عن المعاني بين السطور المنثورة على صفحات الكتب القديمة، لكنه حتمًا ليس طرحًا أكاديميًّا..
يعتقد دريدا بأن النصوص مشبعة الثغرات والتناقضات؛ لذلك طرح نظريته التفكيكية لقراءة النصوص والبحث عن تلك الثغرات بين الكلمات. ومن أدواتها ما طرحه الكاتب من مصطلحات، ويأتي على رأسها الاختلاف difference، وتم فهمه على أنه فلسفة الاختلاف، لكنه أخفى بمهارة معناه بين الحروف، فقد استبدل كلمتين فرنسيتين، إحداهما «différence» بحرف (e)، وتعني اختلاف، والأخرى كلمة «deférrer» وتعني تأجيل. ومن خلال دمجهما أصبحت الكلمة «Différance..
ما فعله الناقد الفرنسي الشهير من دمج للكلمتين هو تضمين لفلسفته في المصطلح الجديد، بمعنى أن أي شيء نقوله دائمًا مؤجل؛ لأنه يعتمد على ما سنضيف، والأمر الذي سنضيفه يعتمد معناه على ما سنضيفه لاحقًا، وهكذا. وربما يفسر ذلك تلك الاحتفالية بالجملة الشهيرة لابن القيم والمذكورة أعلاه. ولعل ذلك يفسر تلك الحالة الصاخبة التي تمر أحيانًا على بعض النصوص عند اكتشاف معنى مؤجل أو خفي بين حروفها.
أكتب ذلك لأن مقولة ابن القيم في غاية العمق، وكأنها تخفي أسرارًا لم يفصح عنها في مرحلته، فالقول إن الفتوى تتغير بتغير الأزمنة والعوائد والنيات والأحوال والأماكن والأشخاص قد يعني أن الاحتفال بها يعني نهاية مرحلة في العقل الفقهي، وبدء أخرى، قد تفتح الباب لتطور القوانين والنظر في المسائل المستجدة..
من النصوص العابرة للقرون أيضًا، وتنتظر معناه المؤجل، مقولة شهيرة لابن تيمية - رحمه الله -، ويقول فيها: «إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة». والنص المكتوب يحكي أكثر من معنى في حياة شيخ الإسلام الحافلة بالمواقف المتنافرة. ونظرًا لاختلاف الأزمنة والبيئة سيصعب فهم ما بين سطور تلك المقولة التي كتبها ابن تيمية بصورة مجردة.
ربما لم يحن بعد زمن الاحتفال بهذا النص على طريقة وجدتها، ولعل ذلك ما يقصده جاك دريدا بالتأجيل، فالزمن الملائم لإطلاقها سيأتي يومًا ما؛ وذلك لأن المعاني الظاهرة فيها في غاية العمق، فالتطرف والظلم وإن كان متدينًا أو مسلمًا لا يمكن أن ينتصر؛ لأنه ضد نواميس وسنن الله - عز وجل -. وإن العدل وإن جاء من كفر بواح ينتصر؛ لأن الأمر ببساطة له علاقة باحترام السنن الثابتة في الكون..
في إيجاز: تعبر بعض النصوص الأزمنة، وتعود إلى الواجهة لأسباب موضوعية، لكنها حتمًا تخفي تلك الظروف السياسية والاجتماعية التي كان يعيشها المفكر في عصره. ولأن النصوص لا تبوح بأسرارها لجأ بعض النقاد عبر التاريخ إلى محاولات تفكيك بعض النصوص على طريقة لعل وعسى، لكن يبدو أن جاك دريدا وصل إلى أحد مفاتيح النص، على طريقة الشاعر العربي طرفة بن العبد في نصه الأشهر «ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً..».