طالما رغبنا فيما مضى في سن الشباب أن نسافر بمفردنا أو بشكل أدق بدون عائلة بنظرة قاصرة، في ذلك الوقت كنا نرى أن السفر مع العائلة ذو قيود ويحد من تصرفاتنا وقراراتنا متجاهلين تماماً فرحة الأب في وجود أبنائه برفقته وذلك الاجتماع العائلي الذي من الصعب الحصول عليه في هذا الزمن، متجاهلين أيضاً حجم المسؤولية التي تكون على عاتق الأب المسؤول عن جميع ترتيبات السفر وهي في النهاية ترتيب لراحة يريدها لنا بغض النظر عما يترتب عليها من تعب وإرهاق وبذل المال في سبيل إسعادنا، ومع كل هذه الأمور لم تكن ترضي بالشكل الكامل لوجود بعض الرغبات غير المبررة وكانت تقابل بالرفض.
ومرت السنين وأصبحت رب أسرة كبرت شيئاً فشيئاً، وبدأت قصة الرغبة في السفر والتخطيط والاقتراحات، هنا توقفت لبرهة من الوقت وراجعت شريط الذكريات سريعاً لأرى المشهد يتكرر تماما وكأنه فيلم سينيمائي يعاد عرضه، هنا فقط أدركت تماما حجم المسؤولية بشكلها الحقيقي وبكل تفاصيلها (أتمنى أن لا تكون بعد فوات الأوان)، أدركت تماماً ما كان يقوم به والدي -أطال الله في عمره- في كل المواقف ومبررات كل رفض وسبب كل تصرف يقوم به ليس بالضرورة تكرار الموقف ولكن بالمجمل العام أدركت تماماً تلك النظرة الحنون التي ينظر لي بها دون علمي، أدركت ذلك الحرص الظاهر في بعض الأوقات والحرص الخفي في كل وقت ولحظة، ما كان يقوم به وراء الكواليس من جهد وتعب وتفكير يستغرق أيّاماً ليظهره لنا بشكل رائع ويبهرنا في لحظة، أدركت الآن عبارة كان يقولها لي (إذا أنت مبسوط يا بوي أنا مبسوط) كنت أخالها مجاملة لطيفة لا تعني شيئاً ولكن الآن أدركتها بشكلها الحقيقي، أدركت أيضا أن رفض رغباتي الشبابية الجامحة كان يؤلمه شخصياً أكثر مما يؤلمني لأنه أعلم بمصلحتي مني، ولا يتوقف الموضوع هنا فقط وإنما يستمر في جميع لحظات الرحلة أي من الممكن أن تحدث تجاوزات أو بعض المنغصات التي من الصعب أن يتحملها أحد ولكن بدوره يتجاوز كل أمر عسير بشكل لا يوصف والسبب الرئيسي هو رغبته في عدم شعور من حوله بأي مشكلة سواء كانت كبيرة أو صغيرة، كل هذا يحصل ونحن ننعم بالسعادة والراحة في النوم والأكل والشرب، لا أريد هنا جلد الذات وإنما توضيح صورة كانت تغيب عن المشهد العام، من الممكن أن نشعر أو نقدر بعضاً من الأمور ولكن نجهل كثيراً من الخفايا الكبيرة التي تجعل والدي فخراً لي ولجميع من يعرفه. هنا أسلط الضوء على موضوع عام وأخص فيه والدي الكريم، والدي الذي أنشأ أسرة كريمة تنعم بالرفاه والراحة منذ ولادتي، والدي الذي لم يمر يوم من أيّام حياتي شعرت بالخوف أو بالقلق لمستقبلي وهو أمام عيني بعد حفظ الله تعالى، والدي الذي علمنا القيم والأخلاق ليس بالتلقين أو التدريس وإنما بأرقى الطرق والأساليب وهي القدوة، بمعنى أنها كانت ممارساته بحد ذاتها مدرسة يقتدى بها في جميع المجالات دينياً واجتماعياً وأخلاقياً وعلى جميع الأصعدة سواء نحن الأبناء أو غيرنا ممن يتعاملون معه، والدي هو مثال للأب الذي كرس حياته للغير أولاً لدينه ثم لوطنه وعائلته ولجميع من عرفه بلا استثناء. لديه من القدرة علاستيعاب الآخر بشكل يفوق الوصف وبالذات مع أبنائه، وأخص هنا ابنه البكر وهو أنا، أدركت الآن حجم ذلك الحب والمسؤولية والخوف والحرص على هذا المخلوق الصغير الذي مهما كبر سيظل طفلاً صغيراً في عين والده، ليس بسبب عدم الثقة ولكن الحب الكبير لهذا الابن، هناك عبارة تتكرر كثيرا وهي (ما راح تحس لين يجيك عيال) هذه من أصدق العبارات التي من الممكن أن تمر عليك في حياتك ولكن الفطن من يستطيع فهمها مبكراً وعدم التمادي في تجاهل العمل العظيم الذي يقوم به هذا الرمز والفخر الكبير، ويستمر في العبث بمشاعر ونفسية الوالد بشكل دنيء من وجهة نظري. تجربتي الشخصية في الفترة الماضية ما هي إلا شيء بسيط جداً قد يكون شيئاً لا يذكر مقارنة بتلك التي مر بها والدي الكريم وأنا أعترف بأني تأخرت كثيراً في إدراك هذه الحقيقة العظيمة ولكن أن تصل متأخراً خير من أن لا تصل نهائياً، أنا الآن في صدمة حقيقية من الواقع الذي كنت أعيشه بدون إحساس حقيقي لهذا الدور، قد يتوقع البعض بأني أبالغ في وصف الحال ولكن من يظن ذلك فهو لم يصل إلى مرحلة إدراك هذا الدور العظيم، حكمة الله تعالى في تعظيم الوالدين لم تأت من فراغ ولله حكمة عظيمة بأن جعل برهما بعد عبادته مباشرة بسبب هذا الدور العظيم، في هذه الحال يجب علينا نحن الأبناء باختلاف أعمارنا أن نحاول قدر استطاعتنا أن ندرك هذا الدور الكبير ونعمل بكل ما نستطيع على جعل هذا المجهود والعمل الكبير له مردود إيجابي في حياتنا وأن نكون لهم خير عون لا عقبة في طريق راحتهم. هذا بما يخص رحلة سفر أو وقت إجازة كمثال ولكن الحياة عامة هي المثال الأكبر لدور هذا المخلوق النادر الذي لا يمكن أن توصفه أو تستطيع الوصول إلى حقيقته لأنه شخص عميق حنون كبير بكل فعل يقوم به مهما كان العمل صغيراً ومهما عظم، إنها رسالة إلى كل شخص لديه والد على قيد الحياة بأن يستثمر وجوده بخدمته والعمل على رضاه وعدم التململ بأي شكل من الأشكال من أي طلب أو رغبة يريدها، أو التذمر من الطريقة التي يعاملك بها أو الأسلوب الذي يعاملك به فكل حالة لها سبب وكل موقف له مبرر، لأنك مهما عملت في حياتك لا يمكن أن ترد له واحداً بالمئة مما قام به تجاهك خصوصاً بما يخص المشاعر الداخلية، ولا يغرك عطاؤك المتواضع أو تقديم بعض الخدمات البسيطة فهي لا تعد شيئاً من البر وإنما تحت مفهوم الطاعة فقط، هنا ألخص كلامي بالقول إنه يجب علينا إدراك هذه القيمة العظمة التي منّ الله علينا بها والمحافظة عليها وعدم العبث بها لأنه في يوم من الأيام لن يفيد الندم ولن تفيد الحسرة مهما كانت مؤلمة، ومن فقد والده فهناك سبيل أيضاً وهو الدعاء الصادق له في كل صلاة وفي كل وقت وفي كل زمان والتصدق عنه في كل المناسبات وغير المناسبات فهذه الأمور هي رد جزء بسيط جدا من فضله عليك وليس كرما منك، هذا بما يخص الوالد وأما الأم فهذا موضوع آخر يجب التطرق له لاحقاً بإذن الله، لأنه عالم آخر لا يقل أهمية أبداً عن هذا الموضوع نهائياً. من الممكن أن يكون كلامي مكررا ومعروفا ومستهلكا ولكن في الحقيقة شعور غريب جداً جداً ما أمر به الآن بعد ما أدركت هذه الحقيقة التي للأسف لم تكن واضحة بهذه الصورة.
أسأل الله العلي القدير أن يطيل في عمر والدي ووالدتي وأن يمتعهما بالصحة والعافية وأن يجعلهما من عباده الصالحين، وأن يجعلني خادماً ألبي جميع احتياجاتهما ظاهرها وباطنها وأن ينور بصيرتي في إدراك ما هو قادم -بإذن الله-.
** **
- خالد بن علي الزيد