د. محمد بن إبراهيم الملحم
عامل «الاستقرار» مهم لجودة المدارس ولا يمكن تصور فصل دون معلم أو مدرسة تبدأ بها الدراسة بنقص 20-30% من معلميها ويحدث ذلك باستمرار في بعض المناطق البعيدة في الشمال أو الجنوب، وسببه تعرض هذه المناطق لحركة النقل باستمرار. وهنا يظهر التساؤل الشهير الذي نسمعه دائما: لماذا لا يتم تعيين أبناء (وبنات) تلك المناطق بدلا من غيرهم ممن سيطلب النقل؟ وهو حل مثالي يؤدي إلى: بدء عام دراسي ناجح، وترتفع جودة أولئك المعلمين بسبب التدريب المستمر طالما أنهم ثابتون بنفس المنطقة، كيف يمكن أن يتحقق هذا السيناريو في ظل تنظيم وزارة الخدمة المدنية والذي يفتح التقديم على الوظائف المتاحة على مستوى المملكة بدون تفرقة بين المناطق؟ فمن هو في الرياض يمكن أن يتقدم إلى وظيفة تدريس متاحة في الجوف أو نجران! الواقع أني لا أدعو إلى تغيير هذا النظام المفتوح بل يبقى كما هو ليحقق مبدأ تكافؤ الفرص الذي تحرص عليه الوزارة، لكن في علم الإدارة حينما يكون حل المشكلة من جذرها غير ممكن يتم اللجوء إلى أسلوب تلطيف المشكلة (mitigation)، وهو ما أدعو إليه هنا بما أسميه نموذج «التعيين المتوازن» حيث يتضمن عاملين أساسيين، الأول هو أن يتم تخصيص 40% من الوظائف المحسوبة لتلك المنطقة لخريجي الجامعات التي في تلك المناطق) أو الأقرب إليها إن لم يتوفر بها كلية تربية( بينما تظل الـ60% المتبقية بأسلوب التعيين المفتوح الذي يستخدم حاليا، وأما العامل الثاني فهو أن هذه الكمية من الوظائف (أي ال 40%) والمخصصة للمنطقة لا تعطى إلا للطلاب المتخرجين بمعدلات عالية مثلا 90% فأكثر (وتحدد النسبة بشكل واقعي بناء على دراسة الوضع السائد لأعداد متفوقي كل جامعة خلال السنوات السابقة فقد تكون 80% في منطقة و90% في أخرى) بالإضافة إلى اشتراط تحقيقهم نسبة عالية في اختبار كفايات التدريس. الجدير بالذكر أن نسبة الـ40% المخصصة للمنطقة تكون مجرد سقف أعلى فإذا كان عدد خريجي جامعات تلك المنطقة المتفوقين لا يصل إلى أعداد الوظائف المخصصة بنسبة ال 40% فإن التوظيف يقتصر على عددهم فقط وبقية الوظائف تكون لبقية مناطق المملكة كالمعتاد فلو كانت نسبة الخريجين المتفوقين مثلا لا تغطي إلا 20% من الوظائف المخصصة للمنطقة فإن نسبة التوظيف المفتوح لكل مناطق المملكة ترتفع من 60% إلى 80%.
سوف أوضح بعد قليل أهمية مثل هذا الإجراء ودوره المهم في سلامة هذا النموذج من التعدي ولكن أولا أشير إلى نقطة مهمة وهي أنه بغض النظر عن موقع سكن ذلك الطالب الجامعي الأصلي سواء كان من أهل المنطقة أم التحق بالجامعة وهو من خارج المنطقة (وينبغي أن يكون التحاقه من السنة الأولى فقط ولا يدخل المحولون في هذا البرنامج) ففي الحصيلة يكون غالبية طلاب الجامعة هم من أهل تلك المنطقة، كما أنه حينما يرد الشك على هذا الأسلوب أن يستغله الطلاب مستقبلا بالتقديم على القبول في كليات التربية بالجامعات التي في مناطق محتاجة إلى المعلمين فهنا أقول لا بأس بذلك لأن العامل الثاني من هذا المقترح يطرح أن يكون منح هذه الـ40% من وظائف التدريس المخصصة (والتي سيطمع بها من سجلوا طلابا في تلك الجامعات) لأفضل الطلاب في كل من معدل التخرج ونتيجة اختبار التدريس وهذا يعني أن إقبال طلاب متفوقين للدراسة في تلك الجامعات البعيدة لأجل الحصول على الوظيفة قليل الاحتمالية لأنهم يذهبون عادة إلى تخصصات أخرى غير التربية ولو فعلوا ذلك للحصول على الوظيفة فهو مكسب لوظيفة التدريس أن ينضم إليها المتفوقون بهذه الطريقة كما أن الفرصة التي يوفرها لهم النموذج بالحصول السريع على الوظيفة هي مكافأة لهم كمتفوقين سواء كانوا من أهل تلك المنطقة أو من خارجها، أما من هم دونهم سيشعرهم تحدي المنافسة بتناقص احتمالية الحصول على الوظيفة مقابل التضحية بقضاء 4 -5 سنوات في الغربة سعيا وراءها فتقل إمكانية استغلال النموذج إلى حد يمكن التغاضي عنه، فوق هذا فإنه وبسبب أن هذه النسبة مفترضة لأهل المنطقة فإن من ينضم لهذا لبرنامج «التعيين المتوازن» يوقع تعهدا بأنه لن يحق له طلب النقل الخارجي إلا بعد خمس سنوات من التعيين فقط ولا يحق له قبلها.
ماذا حققنا هنا؟ استقرار للمدارس لبدء عام دراسي ناجح، تسهيل فرص الوظيفة لأبناء المناطق البعيدة من الخريجين والذين تفوتهم هذه الفرصة لتوفر عوامل الخبرة والأقدمية عند أقرانهم من المناطق الأخرى الأكبر حجما، مع حثهم أيضا على التفوق، وتحقق عنصر الجودة النوعية في اختيار المعلمين للمناطق البعيدة وذلك ل 40% من الوظائف المتاحة سنويا، وأخيرا تحسين فعالية تدريب المعلمين في تلك المناطق لاستقرارهم مما يرفع جودة التدريس هناك.