د. حمزة السالم
الأخلاق تميل نفوس المجتمعات ذات النزعة الدينية عادة إلى ربط الأخلاق، كالصدق والوفاء بالعهد والأمانة، بمقدار تديُّن الرجل. فإنْ أظهر الإنسان عدم اعتقاد بدين المجتمع أو عدم التزامه به ضعفت ثقة الناس به، واتُهم في أخلاقه بشكل عام.
ولهذا يحرص الملحدون في الغرب على إخفاء اعتقاداتهم، إلى دعوى الاعتقاد بإيمان في منزلة بين المنزلتين، منزلة الإلحاد المطلق ومنزلة الإيمان المطلق بالمسيح أو نحوه، وهي منزلة عدم الإثبات أو النفي.
ولكن هل للأديان عموماً، الغيبية منها والعُرفية، أثر في إيجاد الأخلاق؟ أم أنّ الأخلاق هي فطرة تولد مع المرء أصلاً والأديان قد تُتَممها أو قد تصنف أصحابها اجتماعياً؟
وقد قال رسولنا عليه السلام، ما يشير صراحة أو ضمناً إلى أنّ الأخلاق تولد مع المرء، وليست مُكتسبة بالدين. فأما ما جاء في هذا المعنى صريحاً، فهو في قوله عليه السلام المروي في صحيح مسلم «تجدون الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام» فأثبت هنا أنّ الأخلاق تولد مع الإنسان فطرة فلا تتغير حقيقتها، وإن شابها شائب، أكان ذلك حسناً أم سيئاً. وذلك عن طريق التشبيه البديع لجوهر الإنسان بالمعدن. وهذا من عظيم دلائل نبوّته عليه السلام، بتبرئة الإسلام من خبث أخلاق مدّعي الانتساب إليه.
وقد فهم هذا المعنى كبار أئمة الحديث، فكانوا يروون الحديث عن المبتدع وغيره، إذا توثقوا من معدنه الأخلاقي ومروءته، إنْ كان ممن يأنف بنفسه عن الكذب والغش في حقير الأمور، فكيف بالكذب على رسول الله عليه الصلاة والسلام وبغش قومه وأمته المنتسب إليهم. فظلم العادل وكذب الصادق ونقض عهد الوفي بالفطرة تماماً كعدل الظالم وصدق الكاذب ووفاء الخائن، هي شوائب تشوب على معدن الرجل ذي المعدن الأصيل أو المعدن الخبيث، ما يلبث أن تعيده فطرته إلى معدنه.
كتأثر الخبيث المعدن بتديُّن أو بموعظة، ما يلبث أن يجد لها تأويلاً ليستسيغ خبث نفسه هنيئاً مريئاً، فهي فطرته ومعدنه. وكقلق نفس الأصيل المعدن من كذبة أو خيانة أو ظلم أو خداع حتى تُجبره فطرته على العودة ليريح نفسه القلقة التي أزعجتها فطرته الأصيلة. وفي هذا، نظم الشاعر الجاهلي حكمة بقوله:
«ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تُخفى على الناس تُعلم».
وأما الإشارة الضمنية فكقوله عليه السلام «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» وفي لفظ آخر « إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». فهذا فيه إشارة بأنّ غالب الأخلاق الحميدة قد تعارفت عليها البشرية بفطرتهم التي خلق الله البشر عليها، كالكرم والصدق والأمانة والوفاء بالعهود. وهناك أخلاق جاء الإسلام بها كالعفة عن المجون وعن زواج المحارم وغيره.
فهذا سيد من سادات الجاهلية ينظم الحكمة شعراً فيقول:
«لعمرُكَ ما أهويتُ كفِّي لريبةٍ
ولا حملتني نحوَ فاحشةٍ رجلي
ولست بماشٍ ما حييتُ بمنكرٍ مِن
الأمرِ لا يسعَى إلى مثلِه مثلي»
والمقصود بالفاحشة والمنكر كل عمل قبيح من خيانة وغدر وكذب وليس المجون.
فالمجون من مفاخر سادات القوم من العرب في جاهليتهم ومن غيرهم من الأمم. وفي هذا افتخر امرؤ القيس في معلقته فقال:
«وْيومَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْـزَةٍ
فَقَالَتْ لَكَ الوَيْلاَتُ إنَّكَ مُرْجِلِي
إلى آخر ما جاء فيها من المجون. ولكن المجون يصبح خسة ووضاعة إذا كان المجون في حِمى الصديق والجار والقريب لأنه خيانة وغدر ولهذا قال عنترة:
«وأغض طرفي ما بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها».
فأخلاق الشرف والكرامة من صدق ووفاء وأمانة هي فطرة، لا يُساوم عليها شريف الخُلق ولا يكتسبها وضيع الخُلق، بدليل قوله عليه السلام «الناس معادن».
ولكن الأديان، كالنصرانية والبوذية، ذات الطابع الرهباني قد تصنف الناس. فترى من في طبعه المسالمة والصدق والأمانة يميل إلى التديُّن، (ما لم يتخذه معاشاً له). ومن هنا خرج التصور البشري العام الذي يربط التديُّن بمكارم الأخلاق.