د.خالد بن صالح المنيف
كتب أحد الأدباء عبارة رقيقة قال فيها: (إنّ أطهر النفوس النفس التي اختبرت الألم فرغبت أن تجنب الآخرين مرارته)، نفسٌ سمحة كريمة نقية، وقد ذكرتني هذه العبارة بشابٍ في عقده الثاني مر بظروف قاسية في سنواته الأولى، ولكنه تجاوزها تماماّ بشخصية قوية وروح طيبة، فقد كان أطلق ما يكون وجهاً وأنعم ما يكون حديثاً، كان سمحًا في كل شيء في تعامله، سمحًا في اللعب، سمحًا في الأخذ والعطاء، سمحًا في البيع والشراء!
كان يتعامل مع الصغارِ بلطف وحنان؛ فكان يلاعب هذا ويضحك لهذا ويحمل هذا! وحتى في أوقات انفعاله كانت السماحةُ تحضر بكامل زينتها!
والأيامُ لازالت تؤكد أنّ أخلاق البشر الحقيقية هي أخلاقهم التي تتجلى عند الخلاف والنزاع والخصام ، وليست تلك التي تظهر أيام الصفاء والوئام!
ولقد أطلق المقربون من صاحبنا عليه لقبا جميلاً وهو ( سميحان)!
حيث كانت السماحةُ عنواناً بارزاً لتصرفاته دون تفريط فأضح في حقوقه، ودون تجرأ من الغير على ممتلكاته!
ولكن جل تعاملاته يغلب فيها التسامحُ على التشاح!
لطفٌ دون ذهاب للهيبة، رقة ولدت حباً وسماحة أثمرت وداً!
وللأسف أصبح الناسُ الآن يدققون على الصغير ويحاسبون على بسيط الأخطاء ويرصدون الصغائر، ومعها ضاعت الأوقاتُ وأهدرت الجهودُ وتوترت العلاقات!
والبعض إن زللت بتصرف أو فلتت منك كلمة حاسبك حساباً عسيراً ولا يرضيه سوى تعليقك على حبال المشنقة!
وهناك من يشقي أهل بيته بالتركيز على كل شيء ويحاسب أولاده على أدنى سلوك حساباً عسيرا!
وتجد من النساء من تعامل الجميع بود إلا زوجها حيث التركيز على أخطائه ورصد هناته ومناقشته وإزعاجه بل والتنكيد عليه!
والبعض إن أراد شراء سلعة يبذل جهوداً عظيمة من أجل إنقاص مبلغ صغير بإلحاح شديد وحرص عجيب!
ولن أنسى ذلك الموقف من أحدهم في أحد أيام الرياضِ الحارة عندما توقف عند أحد الباعة المتجولين في عز الظهيرة، وكان التعبُ قد أنهك البائع والحاجة أضنته والحر أرهقه وقد بذل، وكان بحوزته شحنة من فاكهة (الحبحب) وكانت نوعية ممتازة فماذا حدث؟ حيث شرعَ بمفاصلة هذا البائع باحترافية وبطول نفس؛ فما كان من الشابِ والذي بلغ به التعب كل مبلغ إلا أن قال: خذها مجاناً!
وقد حدثني صديق عن أحد الذين عمرت السماحةُ قلوبهم أنه يتلمس من بدا عليهم ضيق الحال وقصر اليد، ليشتري منهم ما يعرضونه من بضاعة، حتى ولو لم يكن شديد الحاجة إليها، وبالثمن الذي يطلبونه دون أي مناقشة أو مساومة، بل ربما يسامح في بعض ما قد يزيد له من مال!
السماحة ولين الجانب وصفاء النفس إذا تفشّت في البيوت والمدارس والمجتمعات عشنا بسلام وارتقينا بتعاملاتنا وقلّت التوترات!
فما أروع أن نعمل على صناعة الشخصية السمحة!
والسَّمَاحَة اصطلاحًا: السَّمَاحَة في الاصطلاح تطلق على معنيين: الأول: (بذل ما لا يجب تفضلًا) .. الثاني: (في معنى التَّسامح مع الغير، في المعاملات المختلفة، ويكون ذلك بتيسير الأمور، والملاينة فيها، التي تتجلى في التيسير وعدم القهر).
ويشبِّه الميداني - رحمه الله - النفس السَّمحة بالأرض الطَّيِّبَة الهيِّنَة المستوية، فهي لكل ما يراد منها من خير صالحة، إن أردت عبورها هانت، وإن أردت حرثها وزراعتها لانت، وإن أردت البناء فيها سهلت، وإن شئت النوم عليها تمهدت!
نريد أن نعيد السماحة لحياتنا، نريد أن نعطر أجواءنا بالسماحة، فلتكن أنت السمح:
• سمحاً بمد يد المساعدة وتقديم يد العون بالنصيحة الصادقة!
• سمحاً بالعفو والصفح والتجاوز عن أخطاء الغير دون أن يرضى بضيم ويقبل بجور!
• سمحاً يراعي من حوله ويعتني بمشاعرهم فلا تجده يحرج أحداً أو يتصيد هفوة ، مؤدباً مهذباً لطيفاً!
• سمحاً مع من حوله وذلك بعدم التشدد أو التضييق عليهم معنوياً أو مادياً، سمحاً بالكلمة الطيبة والعطاء الكريم والتغافل المحمود والنصيحة الرقيقة!
• سمحاً في البيع والشراء بعدم التدقيق المتكلف والمبالغ به يطالب بحقه، ولكن أن تعذر بنسبة كاملة قبل وتسامح!
• سمحاً بحب الخير للناس وتنفيس كربهم وقضاء حوائجهم بحسب قدرته!
• سمحاً بقضاء الدين وإنظار المعسر!
• سمحاً بالوجه الطلق والثغر الباسم والخلق الكريم، نزيهاً في التعامل وأداء الحقوق وسد الثغرات، كيساً في ردم الفجوات بهدوء وحكمة!
• سمحاً بحسن الظن بالآخرين، وتلمس الأعذار وحمل حديثهم وسلوكهم على المحمل الحسن!
• سمحاً بمشاركة من حوله همومهم وأفراحهم بصدق ودون أن تتعطل حياته دون أن يخل بأولوياته!
يقول ابن القيم - رحمه الله - عن شيخه ابن تيمية: (ما رأيت أحداً أجمع لخصال السماحة من شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - وكان بعض أصحابه الأكابر يقول عنه وددت أني لأصحابي مثلهُ لأعدائه وخصومه، ما رأيته يوماً يدعو على أحد منهم قط، بل كان يدعو لهم، وقد جئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانَ أبيكم ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه).
أصحاب النفوس السمحة الرضية لا خوف عليهم مهما قست عليهم بعض ظروف الحياة، لأنهم يواجهون شدائدها بهذه النظرة المتسامحة التي تغفر للحياة كل ما يلاقونه فيها من آلام، وينتظرون بصبر لا يكل حظهم العادل من السعادة.
وربما قال أحدهم مثيراً لشبهة معروفة: إنك لو تسامحت وصفك الناس بالعجز وأكل حقك وتجرؤا عليك ، وظنوا فيك الضعف! وأقول لك: لا تقبل ضيماً ولا ترضى ظلماً، ولكن وسع من دائرة تسامحك وارفع من مستوى تغافلك، اطلب الحق ولكن لا تتشدد ارفع الظلم ولكن لا تعتد، وليكن شعارك لست بالخب ولا الخب يخدعني!
ومكاسب السمح عظيمة وجوائزه سنية ثمينة:
فتجد أن له في قلوب الأسوياء احتراماً وتقديراً؛ فالبشر جبلوا على حب وتقدير من يعاملهم باللين والمسامحة والتعامي عن زلاتهم ويجلب لنفسه الخير في الدنيا والآخرة!
وقد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرحمة للرجل السمح: (رحم الله رجلاً سمحـًا إذا باع ، وإذا اشترى ، وإذا اقتضى).
والسّماحة في البيع والشّراء باب عظيم من أبواب كسب الرّزق وتكثيره والسّماحة تجلب التّيسير في الأمور كلّها!
والسماحة نعمة عظيمة وهبة جليلة ، تجعلنا ننعم براحة في القلوب، خلق سام تصفو به القلوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق، قيل: ما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم ولا بغي ولا حسد، قيل: فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة، قيل: فمن على أثره قال: المؤمن في خلق حسن).
ولا خوف على من المتخلقين بالسماحة مهما قست عليهم بعض ظروف الحياة، لأنهم يواجهون شدائدها بهذه النظرة المتسامحة التي تغفر للحياة كل ما يلاقونه فيها من آلام وينتظرون بصبر لا يكل حظهم العادل من السعادة.
والسماحة تغطي عيوب الإنسان إذا كان سهلاً في تعاملاته مع الآخرين
يغطي بالسماحة كل عيب
وكم عيب يغطيه السخاء
والنفس المجبولة على السماحة أقرب إلى التقوى من تلك القاسية الصلفة! فالقلب المفطور على الرأفة والسماحة أبعد عن الظلم والقهر والتسلط عن المظالم!