يفتتح معلوف رواياته العديدة برواية «ليون الإفريقي» 1984، وهي الرواية الأنضج والأدسم والأجمل والأثري موضوعاً وأحداثاً وسرداً، رغم كونها أولى تجاربه الروائية.
تحكي الرواية، في جانبٍ منها، قصة إخراج من بقي من العرب في الأندلس بطريقة استئصالية للبشر والثقافة، حيث استعاد الإسبان سيطرتهم علي كامل الجزيرة الإيبيرية وانطوت سبعة قرون سمان من الوجود العربي الإسلامي في أرضٍ هي من صميم أوروبا.
حدثت هذه المباغتة الصليبية بعد عقود طويلة من الضعف والتآكل العربي الإسلامي في الأندلس، ومُضيّ قرنين على خروج الصليبيين من المشرق، وبعد سنوات قليلة علي فتح القسطنطينية والقضاء المبرم على بيزنطة من قبل المسلمين الأتراك.وهكذا،كما تقول الرواية، بدا وكأن «شمس الإسلام تُشرق في المشرق وتغرُب في المغرب».
الرواية إذاً تحكي مرحلةً تمثّل مفارقة تاريخية نادرة، حيث يستولي أتباع الهلال على أرضٍ مسيحية شبه أوروبية (آسيا الصغرى) ويحوّلون كنيستها الكبرى، (أياصوفيا)، إلى مسجد، ويطلّون على تخوم أوروبا. في حين يستعيد أتباع الصليب أرضاً كانت إسلاميةً لسبعة قرون فيحوّلون مسجدها الكبير في قرطبة إلى كنيسة ويطلّون على تخوم القارة العربية الإسلامية. وكلتا الدولتين تطلان على مضيقين يفصلان عالَمي الصليب والهلال. على أن الصليبيين جاؤوا واستوطنوا المشرق قرابة قرنين دون أن يجلبوا ثقافة جاذبة أو ينتجوا حضارة مؤثرة، في حين أوجد العرب في الأندلس حضارة باذخة ظهر أثرها في عموم أوروبا. كما أن قصارى ما فعله الغرب أن استعاد أرضاً (الأندلس) كان قد فقدها، في حين أن الشرق قد اكتسب أرضاً وموقعاً إستراتيجياً (بيزنطة) هو من صميم جغرافيا الغرب. لكن الغرب انسحب من المشرق وقد أصابته عدوى الحضارة وأطبق على الأندلس فأخذ منها جذوة النور والنهضة، بينما انكفأ العرب في مشرقهم يجترّون مجداً غارباً ومحترقاً وغادروا أندلسهم مستصحبين تخلف الغرب وبدائيته.
والرواية في مجملها قصة رجلٍ تتقاسمه جغرافيا ذلك الزمن، فهو غرناطيّ الطفولة يشهد سقوطها وعمليات النزوح منها للعدوة المغربية، ويحكي غفلة الأمة وفساد رجال البلاط وانشغالهم بالصفقات والسرقات بينما جيش فرديناند على أسوار غرناطة. وهو فاسيّ الفتوة والشباب عاش الثروة والحظوة ومختلف المتع، كما صار قاهرياً لسنتين سمع فيهما دبيب الزحف العثماني على المشرق وصولاً إلى المغرب وسعياً لبلوغ الأندلس مرة أخري، وهو ما لم يتم طيلة الحقبة العثمانية. لكنه فجأة يصبح إيطالياً ويتم تعميده مسيحياً كاثوليكياً على يد البابا ويصبح أقرب الناس إليه في بلاط الفاتيكان، وذلك عبر عملية اختطافٍ شبه مدروسة تم تدبيرها لبطل الرواية أثناء مروره بتونس.
هذا هو «حسن الوزان» الغرناطي الفاسي الذي أصبح اسمه في إيطاليا «ليون الإفريقي» والذي أتاحت له الفوضى الدينية الأوروبية التي وصلت إلى الفاتيكان أن يعود بعد سنين إلى أهله ودينه الأصلي على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، بعد أن أنجز كتابه «وصف إفريقيا» وأعمالاً أخرى.
كم تتسق شخصية بطل الرواية، متعدّد الهويات جغرافياً ودينياً ولغوياً، مع شخصية الروائي معلوف وطبيعته الشغوفة بالتقاطعات والترحال، بل كم تتشابه التغريبتان، تغريبة ليون الإفريقي القسرية وتغريبة معلوف الطوعية أو شبه الطوعية، فكلاهما انسجم في مغتربه وحقق إنجازاتٍ مميزة وحظي بمكانةٍ عالية، وكلاهما عاش على مفترق طرق اللغات والثقافات. وإذا كنا قد عرفنا مآل تغريبة الأول فإن تغريبة الثاني لا تزال قائمة وربما دائمة.
** **
- عبدالرحمن الصالح