ترجمة - حسن الحجيلي:
إذن بروفسور جيجك ... لا تناديني بروفسور إذا كنت لا تريدني أن أقتلك. أشعر بالامتعاض عندما ينادوني بروفسور، ويقولون: أين هو البروفسور؟ لدي مشكلة مع استخدام الألقاب الرسمية، وهلم جرا.. عندما يناديني أحدهم بروفسور، أستقبلها كنوعٍ من السخرية، ولستُ فخوراً بها...
الحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها؛ أنك لست مجرد فيلسوفاً ولكن على غير المعتاد فيلسوفاً شهيراً؟ هل الشهرة ضرورة؟
في البداية، الشهرة مفهوم نسبي، وكما تعلم لدي العديد من الأعداء؛ بعضهم يعتقد أني مجرد مهرج، والبعض الآخر يتصور خلف طبيعتي المسلية إني فاشٍ أو ذو أبعاد ستالينية وهلم جرا.
إذن؛ ما يسمى شهرة هو وسيلة لإبقائي بعيداً وعدم التعمق بجدية في الأعمال التي أقدمها. أنا فخور حقاً بكتابي الجنوني «أقل من لا شيء» والذي يتساوى في عدد صفحاته مع «الإنجيل المقدس»، وهو كتاب معروف وقد بيع منه نسخاً كثيرة جداً. وكل ذلك يعطيني الأمل، و يجب أن لا نقلل من شأن عامة الناس.
مؤخراً، دور نشر ضغطوا علي لأجل أن أقوم بتأليف كتاب لطيف من فئة الأكثر مبيعاً عن دونالد ترامب، ولكن لماذا ينبغي علي تأليف ذلك؟ لا أعتقد أن ترامب مثيراً للاهتمام بل هو أحمقٌ ممل.
هل أنت قلق حول أن تصبح كتبك زينة فوق طاولات القهوة؟ أنت تعلم، الناس يشترونها ولكن في الواقع لا يقرؤونها؟
بالطبع، ولكن ليست وحدها كتب طاولات القهوة التي لا تقرأ، خذ أيضاً كتب الأكثر مبيعاً، والكتب الكلاسيكية، الناس تشتريها ولكن لا أحد يقرأها.
على سبيل المثل خذ كتاب جون رولز، بعنوان «نظرية العدالة»، أعرف شخصياً أناساً من نيويورك قاموا بتأليف كُتب عن «نظرية العدالة»، وعلى انفراد وفي لقاءات خاصة اعترفوا لي أنهم لم يقرؤوه. وأتفق معهم لأن أسلوب جون رولز في الكتابة يمكن تلخيصه وإيجازه في 50 صفحة، ولن تفقد منه شيئاً.
وهذا يقودني لبعض الشكوك المقاربة حول هيجل و مؤلفاته عن «المنطق»، أشك في أن الناس قرؤوها، ولسببٍ ما أعتقد أنه لا يهم حتى وإن لم يقرؤوها.
يوجد كتاب رائع لمؤلف فرنسي اسمه بيير بايارد، بعنوان «كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها؟»، المؤلف وبأفضل الأساليب الفرنسية، وليس فقط بأسلوب هزلي، يأخذ الموضوع بجدية، يقول إن أفضل الكتب التي تناقش مؤلفين آخرين تم تأليفها من أناس لم يقرأوهم بشكلٍ كاملٍ، ويضيف عندما تتحدث عن كتاب لم تقرأه يجب أن تقوم بالتركيز على جزئية واحدة، ثم تترك هذه الجزئية الوحيدة تصبغ انطباعك الكُلي حول الكتاب.
وتلك هي الطريقة الوحيدة لتقديم شيء جديد ذلك من المفارقات الفلسفية؛ لا تحتاج لتقرأهُ كلهُ إن كنت تعرف الكثير منه و إلا ستشوش القراءة أفكارك التي تعرفها.
إذا يشترون كتبك ولا يقرأونها، هل على الرغم من ذلك تعتبرها علامة جيدة على اهتمام الناس بالفلسفة؟
نعم، أمنيتي السرية أن هناك طبقات من القراء ومنهم الذين لا يبحثون فقط عن النكت داخل كتبي. بعد السلسلة الفلسفية من الكتب التي ألفتها مؤخراً، الأكثر فلسفية، كتاب مثل «الارتداد المطلق» والذي إن كنت تسألني تحت تهديد خطر الموت - وآسف لقول هذا - هو أفضل كتبي التي ألفتها، وبسببه استقبلت رسائل كراهية عبر الإيميل، مثل «أين النكت؟».
بعض الناس يتهمونني بعيداً عن النكت البذيئة التي أقولها؛ أني مجرد فيلسوف تقليدي جداً! وهم صادقين بعض الشيء حتى أني أستخدم جاك لاكان كأداة صارمة لإعادة تأويل فلسفة هيجل.
أكبر حدث في تاريخ الفلسفة هو الانتقال من كانط إلى هيجل.
ما الذي يجب على الفلسفة أن تقدمه أو ما الذي يمكن للفلسفة أن تقدمه اليوم؟ وهل كان هيجل علامة فارقة، وذا أهمية؟
قطعاً. ربما اليوم ليس الوقت المناسب لتغيير العالم ولكن بدلاً عن ذلك يجب أن نخطو عودةً للخلف، ونفكر. ما نحتاجه اليوم هو الانتقال من مادية ماركس إلى مادية هيجل لأن مادية هيجل أكثر حصافة وبراعة من ماركس.
هل تعرف من هو هيجل الذي يعجبني؟ هيجل الذي يقول في مقدمة كتابه بعنوان، «فلسفة الحق»، (إن بومة منيرفا لا تبدأ بالطيران إلا بعد أن يرخي الليل سدوله). هذه العبارة البسيطة تعطي انطباعا خاطئاً أن هيجل محافظ في «فلسفة الحق»، ويحامي بطريقةٍ ما عن البروتوفاشية داخل المجتمع. عندما يكتب هيجل أن أي نظام تاريخي محدد لا يمكن فهمه إلا بعد أن ينتهي وقته، هل تعتقد أن هيجل مغفلاً ولا يعرف أن نفس الوصف من الممكن أن ينطبق على كتابه، «فلسفة الحق»؟ هيجل لا يرسم نظاماً ويفرضه كشكل اجتماعي محدد، بل هو يرسم حالة اجتماعية بعد أن تجاوزها الزمن بوعيٍ تام. حالنا اليوم يشبه فلسفة هيجل تماماً، أكثر بكثير من ماركس.
ماركس وبحدٍ قليل من الغائية يؤمن بأن حالتنا الاجتماعية تتطلب ،كضرورة حاسمة، ثورة بروليتارية مهمتها إصلاح البشرية جمعاء. وبالمقابل تُفهم الحالة الاجتماعية عند هيجل باعتبارها نهج ما بعد الثورة. خذ على سبيل المثال الثورة الفرنسية، أخفقت، وبطريقةٍ ما، تطورت لتصبح شيئاً بعيداً عن الصواب، ولكن هيجل قام بإعادة تصديرها.
الإشكالية العصية التي تطرحها أفكار هيجل هي أن لا تقول إن الثورة الفرنسية مجرد هراء، ولكن كيف تحافظ عليها كإرث تاريخي بشري حي بغض النظر عن النتائج الكارثية التي حققتها الثورة. وأتصور أن وقتنا الحالي مشابه جداً لتلك المرحلة؛ القرن العشرين فشل في محاولات التحرر من الراديكالية السياسية.
يجب علينا أن نتخلى عن الاستعارات المجازية الماركسية عن أننا نقود قطار التاريخ البشري. الماركسيون يحبون أن يقولوا حتى وإن كانت الأيام مظلمة؛ فبالإمكان رؤية النور آخر النفق. وأنا أقول بقليل من السخرية: «نعم إنه نور قطار آخر يتجه نحونا».
إذن هذا حالنا اليوم، وهيجل يعرفه، حالنا مكشوف؛ لا نستطيع عمل أي خُطط لتغيير العالم.
إذن لا توجد فعلياً ثورات مُحكمة السيطرة والتخطيط؟
نعم، هذا تصور هيجلي؛ لا توجد ثورات محكمة التخطيط. ماركس كان يقول إن الثورة البروليتارية عملاً يفهمه بوضوح الذوات التي تقوم به، ويحقق تطلعاتهم. في مرحلة من التاريخ، الطبقة العاملة كانت تعرف بوضوح المواضيع التي تريد تحقيقها، وعملوا الثورة، ولكن النتيجة لم تكن مخططة ولم تحقق بصدق رغبات المجتمع، بل وقعنا في نفس الجدلية التاريخية التي سبق أن وقعنا بمثلها في مرحلة سابقة من التاريخ.
في كتابي الجديد «شهوانية الباطل: عُقد الفلسفة الاقتصادية»، أسأل عن معدلات الموت في الأنظمة الشيوعية. لا أحارب فقط ضد صدق وشفافية الثورات ولكن أحارب أيضاً ضد الرؤى التي بطريقة أو بأخرى ستكون محل تمجيد في المجتمعات الشيوعية. أنا أقول فقط، ولكن من الذي يعرف؟ ربما الأوضاع ستكون أسوأ. وحتى بدون تنميط الماركسية بصورة مخادعة، يجب علينا فهم مصطلح «الكثافة التاريخية». إذا كانت جميع القوانين الاجتماعية تفتقر للشفافية، سينتج عنها مجتمع جديد مطابق لها تماماً أي أنه في الأساس مجتمعاً لا يعرف ما الذي سيقدمه.
نحن الآن نقترب من نهاية المقابلة، ولكن قد يتساءل قراؤنا، من بين جميع الكتب التي كتبتها؛ ما هي الكتب التي يتوجب علينا قراءتها؟
من كتبي أتصور كتاب «حدث: فلسفة العبور»، وإن كنت تمتلك الطاقة الكافية فأنصح بكتاب «الارتداد المطلق».
وأيضاً بالطبع يوجد عندك الفلاسفة العظماء الثلاثة بالنسبي لي وهم: أفلاطون، وديكارت، وهيجل، لماذا؟ لأن كل واحد منهم قدم فلسفة تتوارثها الأجيال. أو كما قال ألفريد نورث وايتهيد : « أليس تاريخ الفلسفة في جُله هو تاريخ نقد أفلاطون؟»، ومن بعده يأتي ديكارت، الجميع يريد التخلص من ديكارت، وفي القرن التاسع عشر كانوا جميعاً يرغبون في التخلص من هيجل. هؤلاء الفلاسفة الثلاثة، هم فلاسفة الحدث.