د. محمد عبدالله العوين
لا يضير الوطن واحد أو اثنان أو عشرة استرخصوا وطنهم وزهدوا في الانتماء إليه وباعوا أنفسهم وضمائرهم إن كان قد بقي لهم من ضمائر تحس وتشعر بقيمة الوطن .
هذا أحدهم من الرخصاء الذين ابتعثهم الوطن إلى أمريكا ليطلب العلم حاملاً شهادة الدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر ليسهم في نهضة وطنه؛ ولكنه مع بالغ الألم قابل سخاء وطنه بالعقوق والنكران وعمل مذ كان طالباً في الولايات المتحدة على الانضمام إلى تيارات حزبية تتبنى فكر جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات المتطرفة التي تسعى إلى استقطاب الشباب تحت دعاوى العمل الفكري الإسلامي باسم الاتحادات والتجمعات المختلفة، وهي ليست إلا لافتات حزبية تهدف إلى تغيير أنظمة الحكم مدعومة من جهات استخباراتية إقليمية ودولية.
لا يمكن أن يقبل من لديه ذرة إحساس بقيمة الوطن ونفاسة ترابه وعبق تاريخه وأحلام مستقبله أن يفرط فيه أو أن يتخلَّى عن أصله ومرابع صباه لينضوي من جديد تحت لواء دولة أخرى يتسمى باسمها ويحمل جنسيتها ويسافر بجواز سفرها مهما كانت تلك الدولة كبيرة ضخمة كأميركا مثلاً أو صغيرة ضئيلة عدو كدويلة قطر!
لا يمكن التفريط بالجنسية من حيث المبدأ؛ فما بالك حين يكون التفريط لصالح دولة تكيد للوطن وتناصبه العداء؟!
كان تنازله في بداية الأمر مثيراً لأسئلة كثيرة عن الدوافع والأهداف، وذهبت الظنون في تفسير ذلك مذاهب شتى؛ هل ضاقت به فرص العمل فذهب يتطلب فرصة كانت سانحة للعمل في جامعة قطر مثلاً؟ أم ضاق به الفضاء الفكري فصور له خياله أنه سيجد فضاء أرحب كما توهم فطار إلى كعبة المضيوم يكتب وينظّر ويحاور كما يشاء دون قيود أو حدود، أو أنه لا هذا ولا ذاك؛ بل أتته جنسية قطر هدية متبخترة تجر أذيالها من الديوان الأميري تقديراً من قلعة العلم والفكر للعباقرة والمفكرين وقادة الرأي؟!
لقد كانت تلك تساؤلات لم تكن غائبة عن أسئلة المتابعين والمراقبين لتصرفات غريبة مريبة كما فعل هذا المفكر العظيم!
لقد كانت مريبة حقاً؛ لأنه انسحب من ظِلال وأفياء الوطن إلى ضَلال وسعير تنظيم الحمدين الذي لم يكن يهدي جنسيته ولا يقدّمها عبثاً مكافأة لمفكرين أو علماء، ولم يكن يسخو ببطاقة جنسيته ولا فرص العمل المتاحة في الجامعة الوحيدة أو غيرها من المؤسسات البحثية والأكاديميات المكونة مع سبق الترصد للعمل الحزبي الهادف إلى تغيير الأنظمة السياسية بتأجيج الثورات كما صورتها فوضى الخريف العربي الذي خطط له ورعاه مع الشركاء تنظيم الحمدين؛ لقد كان التنظيم يعمل وفق خطة دقيقة تحقق أهدافاً بعيدة مرسومة، وهذا ما انكشف للمتسائلين - وأنا أحدهم - بعد تطور الأحداث وإعلان عدائه الصريح للمملكة ودول الخليج والمنطقة العربية وتبيّن عمالته بصورة سافرة لإيران وإسرائيل.
لن يكن مقبولاً أبداً استرخاص الانتماء للوطن وادعاء الانتماء لوطن آخر حتى لو لم يكن دولة عدواً؛ فما بالك والارتماء في حضن دولة تعلن العداء المطلق وتحيك المكايد والاتفاقات السرية والعلنية وتستجلب الجيوش من إيران وتركيا ومن المليشيات الطائفية الفارسية كحزب الشيطان اللبناني؟! الحق أن الدكتور المعني لم يرتم على كعبة المضيوم سعياً للرزق أو مغتنماً فرصة عمل سخية أو مستجيباً لتكريم مزعوم أو باحثاً عن فضاء حرية مفقود؛ لا، لم يكن الأمر على هذا النحو من التفسير البريء؛ بل كان استرخاصه الانتماء إلى الوطن وزهده في حمل جنسيته ليس إلا خطوة أخيرة في برنامج حزبي طويل بدأ مبكراً في سنوات الطلب الأولى في غربته الأمريكية ثم أكمله بالخطوة الأخيرة حين دقت ساعة الصفر وتتابعت خطوات تأجيج الفوضى في المنطقة ليأخذ دوره المكلّف به ويقدّم ما لديه من عصارة الفكر الذي اشتغل عليه مع رفقاء السوء من الهاربين والمنشقين في عواصم مختلفة من العالم .
أقول وقد عرَّت الأحداث كل من في قلبه خبث وانطوى على جينة خيانة نائمة ثم استيقظت فجأة: الوطن أكبر وأعظم وأجل من أن يلتفت إلى الرخصاء الذين يُباعون ويُشترون في أسواق النخاسة .