الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين.
القضاء في المملكة تكرس على مشارب عدة, مستلهمًا ذلك من قواعد الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية, وتوالى ولاة أمرنا عليه باهتمام بالغ, باستقلال وحياد ومرجعية شرعية فريدة؛ فصدرت التنظيمات, وصيغت اللوائح, وبُذلت الجهود.
غير أن المطلع في هذا العهد الزاهر (عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز, وسمو ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان - أدام الله توفيقهما -) ليؤمن أننا في مرحلة مختلفة من مراحل التأسيس كبُعد استراتيجي في جميع الأصعدة، ولاسيما الناحية القضائية.
وحتى يتواكب القضاء مع هذا البُعد الاستراتيجي فيلزم أن تطبَّق جميع التنظيمات القضائية الصادرة على أرض الواقع؛ لتكون المملكة العربية السعودية نبراسًا يليق بمكانتها العالمية ببُعدَيْها الإسلامي والاستثماري, وبما يتوازى مع طموح رؤية المملكة 2030.
وفي هذا اليوم نقف جميعًا، نحن المسؤولين والمتابعين والمعنيين بالشأن القضائي والعدلي والحقوقي، على نتاج تعاون مؤسسي مهم، أسفر عن استقلال وتخصص نوعي بانتقال القضاء التجاري من كونه دوائر قضائية في ديوان المظالم إلى كونه محاكم تجارية مستقلة بمقارها وكوادرها وبنيتها تابعة لمظلة وزارة العدل. وقد واكب هذا النتاج تلكم المرحلة الفريدة من نوعها، التي يمر بها القضاء السعودي؛ إذ تقوم الدولة - وفقها الله - بدعم هذا القطاع المهم بكل ما يحسن بيئته، ويطور أعماله، مسخرة له الإمكانيات المادية كافة التي تسهم في نهضته، إضافة إلى تأهيل أفراده العاملين فيه للعمل القضائي؛ ليواكب مرفق العدل والقضاء التطلعات السامية والرؤية الكريمة للمملكة العربية السعودية، وبما يوازي مكانتها على الصعيدَيْن الإقليمي والدولي.
فهذا اليوم الذي نحتفي به مع زملائنا في وزارة العدل بمنجز قضائي نوعي، تم من خلال تعاون مثمر بين مؤسستَين قضائيتَين (ديوان المظالم ووزارة العدل)، متمثلاً في سلخ الدوائر التجارية ودوائر الاستئناف التجارية من ديوان المظالم إلى القضاء العام تحت مظلة وزارة العدل تطبيقًا للنصوص النظامية، وتنزيلها على أرض الواقع, الذي تم بموجب الاتفاقية الموقَّعة بين الجهتَين في 13/ 6/ 1437هـ، وهي ما تشكل انتقالاً كاملاً للقضاء التجاري في مقار حديثة مستقلة مواكبة لأهمية هذا القضاء المتخصص، وملبية لاحتياجه في الرياض وجدة والدمام، إضافة إلى الدوائر المشكَّلة في باقي المحاكم العامة في مناطق المملكة, إلى جانب العاملين كافة فيه من قضاة ومعاونين وإداريين, مصاحبًا ذلك نقل البنية التقنية والتطبيقات وبرامج الترافع الإلكتروني؛ لتمثل بهذا التحول محاكم تجارية تابعة لوزارة العدل.
هذا المنجز المهم، وكما جاء تنفيذًا للمقتضى النظامي بموجب نصوص نظام القضاء الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/ 78 وتاريخ 19/ 9/ 1428هـ، مواكب للرؤية السامية للمملكة 2030 في تحقيق تخصص نوعي لقضاء مستقل وناجز، يعالج القضايا التجارية بشكل موسَّع وفق مقتضيات المصلحة العامة، ووفق قواعد العدالة؛ لما يشكِّله القضاء التجاري من رافد مهم لبناء البيئة الاقتصادية والنهضة التنموية، وحتى تكون هذه النقلة حافزًا لتطوير الاستثمار المحلي والأجنبي، وخصوصًا أن المملكة ضمن الدول العشرين الأقوى اقتصادًا حول العالم؛ ما سيسهم في تحقيق قضاء عادل ناجز وفق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وقواعد النظام بما يحمي الحقوق والأموال والممتلكات للمواطن والمقيم والمستثمر.
وفي الإطار ذاته لا ننسى الدور السباق لديوان المظالم في نظر المنازعات التجارية طيلة الـ30 عامًا الماضية، بدءًا من عام 1408 إلى عام 1438هـ، وما أسسته تلك الفترة من مبادئ راسخة في العمل القضائي التجاري على مختلف الموضوعات التي أصدر لها ديوان المظالم مؤخرًا مدونات وتصنيفات كثيرة حفظًا لتلك الحقبة المرحلية المهمة من تاريخ القضاء التجاري، وتأسيسًا لما سيكون مرجعًا للقضاة ونشرًا للوعي القضائي.
فبدعم من خادم الحرمين الشريفين -وفقه الله-, وبمتابعة دقيقة من سمو ولي عهده الأمين -وفقه الله-، فإن القضاء التجاري في المملكة يشهد اليوم أولى نقلاته المتميزة؛ فمن كونه ممثلاً في الدوائر التجارية التابعة للمحاكم الإدارية ها هو الآن يقوم على أساس مستقل بوصفه محكمة تجارية في المناطق الرئيسة في المملكة، يضم إلى جانبها دوائر مشكَّلة في المحاكم العامة التابعة لوزارة العدل. ولم يكن هذا التحوُّل شكليًّا فقط، بل على مستوى الاختصاص بموضوعات القضاء التجاري من خلال النظر في الاختصاصات الموسعة من نظام المرافعات الشرعية؛ لتكون المحكمة التجارية كيانًا مهيَّأ للفصل في كافة النزاعات التجارية والدعاوى المتصلة بالعمل التجاري، محققة بهذه النقلة إنجازًا قضائيًّا، هدفه توفير أسس العدالة في أسرع وقت للمستفيدين.
وباسمي، ونيابة عن زملائي منسوبي ديوان المظالم، أقدم أزكى تحية وأزجى شكر لجميع قضاة وإداريي المحاكم التجارية الذين ساهموا وبذلوا جهدًا متميزًا في النهوض بالقضاء التجاري طيلة الفترة الماضية، من خلال سعيهم الدؤوب للإنجاز وإقرار قواعد العدالة في خلق بيئة عمل إيجابية، وتفانٍ في العمل.
كما أرجو الله -عز وجل- أن نكون قد وُفِّقنا في القيام بخدمة هذا المرفق القضائي المتخصص وفق ما يتطلع إليه قادة هذه البلاد - حفظهم الله - نحو تقديم عدالة ناجزة، ورد للحقوق بما يمليه علينا الشرع الحنيف، تعزيزًا لحفظ مقاصد الشريعة تجاه الأموال والممتلكات.
أشكر الله -جل في علاه- أن يسَّر لنا الإتمام والعون، ثم أتقدم بالشكر الوافر لمقام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- وإلى ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- على الدعم الكبير الذي يتلقاه مرفق القضاء عمومًا تنظيمًا ودعمًا في الكوادر والموارد، بما يسهم - بمشيئة الله - في تحقيق التطلع الكريم للقيادة الحكيمة لتحقيق مقومات الأمن والعدالة والاستقرار، التي تشكل كتلة واحدة لبناء دولة حديثة ومتقدمة. كما أتقدم بشكري لمعالي وزير العدل الدكتور وليد بن محمد الصمعاني وجميع منسوبي الوزارة على ما لمسناه من تعاون تام في إتمام عملية الانتقال، سواء في القضاء التجاري، وأيضًا قبله في القضاء الجزائي، بما يعكس صورة مشرقة لقيمة التعاون المؤسسي لتحقيق النفع العام.
أشكر زملائي في اللجان الإشرافية والفرعية على ما بذلوه من جهد متميز في رسم وإتمام خطة الانتقال بسلاسة وسلامة تامة - ولله الحمد - ووفق الجدول المرسوم نوعًا ووقتًا.
ختامًا أسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك في الجهود، ويتمم الأمور على خير، وأن يحفظ على بلادنا الأمن والرخاء والاستقرار. والله ولي التوفيق.
** **
بقلم/ د. خالد بن محمد اليوسف - رئيس ديوان المظالم - رئيس مجلس القضاء الإداري