«الجزيرة» - محمد المرزوقي:
صدر للدكتور ساعد بن خضر العرابي الحارثي كتاب بعنوان: «رحلة على هامة التحدي»، عن دار مدارك 2017م، في سبع وأربعمئة صفحة من القطع الكبير، متضمنا ستة عشر فصلا، ضمّ كل منها جملة من الموضوعات المتناغمة في رصد سيرة لرحلة على هامة مسيرة سيرة محفوفة بالتحديات، حيث اتبع المؤلف فصول إصداره بملحقات، تضمنت أربعة محاور: الأول جاء عن النسب، وثانيها لملامح سيرة (صور)، بينما خصص الحارثي ثالث الملحقات لسيرته الذاتية، أما آخرها فلمحتويات كتاب «الرحلة»، التي استهل العرابي وصفها قائلا: تبدأ بعض أفلام الدراما الأمريكية بتجسيد مواقع الألم إلى درجة استلاب الدمعة من مقلة المتابع! ولكنها تنتهي بنجاح بطل الفيلم وتحقيق أهدافه والانتقال من الجحيم إلى النعيم.. يحصل هذا في الأفلام! وهي في أحيان تعكس حقائق وقعت على أرض الواقع حتى لو اعتراها الكثير من المبالغات وتضخيم صورة المأساة أو الفرح، أما السير الذاتية (الوثائقية)، فإنها تركز على الحقائق كما هي دون مبالغات، ذلك أنها توثيق لمشوار حياة قد يكون المستفيد الأول منه أبناء الكاتب وأحفاده وأقاربه.
وعن السيرة والحقيقية في مضمار كتابة السيرة أضاف الحارثي: إذا جانب هذا النوع من الكتب الحقيقة المجردة، فإنه يصبح خطأ كبيرا في حق الكاتب وحق التاريخ وحق القارئ، وتزييفا لوقائع وأحداث ومسيرة لم تكن أو كانت مبالغا فيها، وكاتبها إما أن يكون مريضا نفسيا وإما مدفوعا بارتداء ملابس ليست من مقاسه، بهدف أن يكون الثعلب أسدا! وهذا النوع من الكتب يتهاوى سريعا إلى مكب المهملات، وقد كان صاحب هذه القصة مدركا لهذه الحقيقية، فابتعد تماما عن المبالغة في المعلومات أو الحادثة أو حتى استخدام فنون اللغة، فلقد أراد لكتابه أن يكون صادقا صحيحا يقدم الحقائق كما هي، لذا سرد الجانب الدرامي في حياته باختصار دون تفاصيل كثيرة ليقدم لأبنائه وأحفاده والقارئ كيف كانت الحياة في ذلك الزمن، إذ لم تكن حياته شاذة عما كان سائدا في مجتمع الجزيرة العربية في ذلك الوقت، ولكنها تعكس حياة درامية لا مبالغة فيها إذا قلنا: إنها كانت حية النسبة الغالبة من سكان الجزيرة العربية، وليس المملكة العربية السعودية وحدها، ولا تزال نسبة من المجتمع تعيش تلك الحياة بحلوها ومرها.
أما عن تدوين العرابي لسيرته بعيدا عن الانشغال بتتبع التفاصيل فيما حواه كتابه قال: حتى فيما تحقق من نجاحات وإنجازات، صعود الجبال باتجاه ذرى السحاب، لم أشأ أن أكتب بالتفصيل.. بل جعلت ذلك أقصر أجزاء حكايتي، على الرغم من أن ما وصل إليه صحب السيرة من مواقع كبيرة وحساسة جعلته مطلعا على ما يمكن أن أسطره في مجلدات! فلم يفضل شرح ذلك بإسهاب، ولم يتطرق إلى ما يعرف وإلى ما كان له دور أساسي في بنائه على مستوى الوطن، وما له صلة بعلاقات الوطن بالخارج، باعتقاده أنه ما كان ليفعل ما فعل لو لم تتح له الفرصة من أصحاب القرار، ومن جانب آخر يعتبر ذلك من طبيعة الأعمال الموكلة له، ومن الأمانة أن تبقى في طي الكتمان، إضافة إلى خشيته فيما لو تطرق للكثير من الإسهامات العلمية الكبيرة أن يعد ذلك مبالغة ربما لا تجد طريقها إلى التصديق، مردفا العرابي قوله في هذا السياق: لهذا اقتصرت على ما يمكن سرده فقط لتقديم سيرة رجل جاء من الظلام إلى النور مخترقا طبقات من العتمة، ليشق طريقا مليئا بالأشواك والضواري!
هكذا تتضح رؤية صاحب الرحلة في منهجه لكتابة سيرته، التي انعكست بدورها على سمات تجلت فيما ضمه كتاب سيرة الحارثي، إذ وصف ناشر الكتاب (مدارك) هذا الإصدار بما جاء فيه: هو ليس قصة ولا رواية ولا هو سيرة ذاتية مباشرة كما هو المعتاد.. إنه سجل وثائقي حقيقي اعتمد أسلوب الحكاية، بلغة بسيطة مباشرة عن سيرة رجل خرج من رحم الأمية والفقر والظلام إلى عوالم شاسعة أخرى، لم تهب له ولم يرثها ولكنها صنيعة يده.. إذ تتميز شخصية صاحب هذا الكتاب بأنه كان هو لا غير المربي لذاته والنتاج لتربيته، وأن ما تحقق له -بعد الله- كان ضرباً من ضروب المستحيل.. فقد أمه عند الولادة، وفقد والده وهو في سن الثانية عشرة من عمره، وعاش في بيئة فقيرة أمية أقصى ما يتطلع له سكانها أن يكون موظفا ليعيش، إلا أنه كان مختلفا، إذ مرّ بالكثير من التحولات والتحديات في حياته معتمدا فقط على قدراته الفكرية والذهنية للوصول إلى ما وصل إليه.. تجاوز الصعوبات، وحطّم العقبات في طريقه نحو الصعود، فكان طالبا وموظفا وصحفيا في آن واحد.. وعندما أصبح أستاذا في الجامعة تطلّع إلى خارج أسوارها ليس فقط بحثا عن المال والمكانة، وإنما لرغبته أن يكون له دور في الحياة العامة على مستوى الوطن.. فكان له ذلك!
وفي إحدى المحطات الإعلامية حكى الحارثي عبر سيرته الصحفية في الفصل العاشر من كتابه الذي حمل عنوان: «الطريق إلى السحاب»، في موضوع:
«من عكاظ إلى الجزيرة»، قوله: غادر (ساعد) مكتب عكاظ في شارع الوزير بالرياض، إلى موقع الصحيفة الفتية «الجزيرة»، وهي في حي الناصرية، وكان العاملون الأساسيون في الصحيفة آنذاك رئيس التحرير (خالد المالك)، وسكرتير التحرير (راشد الراشد)، رحمه الله، والمحرر الرياضي (عثمان العمير)، ومسؤول المحليات (سلطان البادي)، الذي انضم إليه ساعد، إضافة إلى محرر في قسم الأدب والثقافة، والعاملين في المطبخ الإخباري.. وكان الحرف يصفّ على رصاص، وهي عملية معقدة، وعلى المحرر أن يتابع موضوعاته من كتابتها حتى طباعتها نهائيا، وكان التحدي له كبيرا، فعدد التحرير من الصحفيين العاملين قليل جدا، وجميعهم يمتلك خبرة صحفية تؤهله للعطاء، أما هو -ساعد – فلا يزال مبتدئا في العمل الصحفي، وغارقا بين الدراسة والوظيفة الحكومية، ويشعر أن بينه وبين من يعمل معهم مسافة شاسعة من القدرات الصحفية، مما سبب له الكثير من الضيق والتعب النفسي والشعور بالإحباط، إلا أنه أصرّ على إثبات الذات وعدم الانهزام مهما كلّف الأمر، فأخذ يضاعف جهوده في القراءة لكتب الصحافة، وغالبيتها تأليف أو ترجمة مصرية، ومحاولة تقديم ما يؤهله للاستمرار خوفا من الاستغناء عن خدماته، وهي كارثة قد تعني مغادرة العمل الصحفي إلى الأبد!
ومضي الفتى (ساعد) في تدوين سيرته «العملية» الصحفية، مدونا قصة حلمه الذي تحقق بأن يصدر صفحة أسبوعية تكون من إعداده ويكتب اسمه في أعلاها، لتكون صفحة (إعلام) هي البوابة التي برز من خلالها العرابي ولاحت عبرها في الأفق الإعلامي انطلاقة نجوميته الصحفية، وأثبت للقارئ مهنيته الصحفية، وذلك بموافقة الأستاذ خالد المالك رئيس تحرير صحيفة «الجزيرة»، على نشر صفحة أسبوعية يحررها الحارثي، ويتم وضع اسمه في (ترويسة) الصفحة معدا لها.. حيث تزامن ذلك مع دراسته في قسم الإعلام، وتعاونه مع وكالة الأنباء السعودية، ثم إذاعة الرياض، عبر برنامجه الذي أعده وقدمه بمسمى (الخدمة المدنية) ومنها إلى تجربته مع التلفزيون، التي أورده صاحب السيرة في موضوع وسمه بعنوان: «محاولة على الشاشة»، التي تزامن معها بداية التفكير في الزواج والشروع في بناء مسكن في مدينة الرياض، إلا أن تطوير (صحيفة اليوم) وتعيين محمد العجيّان -رحمه الله- رئيسا لتحريرها، ومن ثم فتح مكتب إقليمي لها في الرياض، الذي ظلت وظيفته شاغرة (مشغلة) الحارثي بين مد الطموح الصحفي، وجزر خيارات مواصلة الدراسات العليا، ما جعل إدارة المكتب عالقة بفضاء أفكاره، ليتصل بالعجيان، الذي عينه مديرا لمكتب الصحيفة في الرياض، ليصبح بذلك ضمن خطوة من خطوات حلمه «الهيكلي» كمدير إقليمي، ما عزز مسيرة الطموح وشحن همة النضال في مضمار مهنة المتاعب، في وقت مبكر من حياته العلمية، إذ لا يزال (ساعد) طالبا في المرحلة الجامعية، ليكون أحد الأسماء -أيضا- التي اشتركت بدورها في التخطيط وتحديد المستلزمات الطباعية والفنية والكفاءات العاملة صحفيا وإعلانيا.
كما مرت رحلة (ساعد) بالكثير من مفترقات الطرق، والأيام التي لا تنسى، إذ كان ترشيحه لرئاسة تحرير صحيفة اليوم، إلى جانب مرشحين اثنين، أمام مواصلة الدراسات العليا (مبتعثا)، مرحلة مفصلية في مسيرته العملية صحافيا إذ جاءت نصيحة معالي الدكتور عبدالعزيز بن محيي الدين خوجة، عندما كان حينها وكيلا لوزارة الثقافة والإعلام، بمثابة القول الفصل في حسم (ساعد) لأحد أهم فصول مسيرته المرحلية العملية، إذ ظل العرابي في سرد سيرته يحكي بأسلوب جذاب مشوق، اجتمعت فيه فنيات القصة، وروح الرواية بمداد لا تنقصه الصراحة والشفافية والوضوح في وضع يد القارئ على رحلة وإن أهمل العرابي الكثير من تفاصيلها إلا أنها مع ذلك جاءت رحلة لا تنقصها التفاصيل! الذي يعيد إلى ذهنية القارئ ما يمتلكه صاحب السيرة من مهارات جمعت إلى جانب قدراته الصحفية في الصياغة امتلاكه ناصية اللغة في أسلوب سهل ماتع ممتنع، ينساب عبر عناوين فصول إصداره انسياب الماء في جداول تحفها الكثير من تضاريس الحياة الوعرة، إلا أن التحدي كان سر تألق ذلك الانسياب في رحلته على هامة التحدي، ما جعل من رحلة (ساعد) رحلة غناء، تبهرك منذ بداياتها المختلفة، التي بدأت بـ»عقدة» مركبة، ما أخرجها عن بنائية القص، وسردية الرواية، إلى ما يشبه (الرواية السيرية)، ما جعل من عناصر: المفاجأة، الدهشة، الحيرة، المفرقات، العقد البسيطة والأخرى المركبة، التداخل، حالات الانفراج، اجتماع «الزمكانية» وتعارضهما في آن واحد، ملاح الصعود، البعد النفس والاجتماعي بدء بالقرية (المريفق)، وانتهاء بالوطن، الرحلة، الارتحال.. من بين عناصر كثيرة تتابع ظهورها وتداخلت أطرافها في مرحلة أخرى من المسيرة العملية، منذ عودة (ساعد) إلى الديار، أستاذا جامعيا، ثم الالتحاق بوزارة الداخلية، ليظل مد طموح الحارثي أول أدواته لمواصلة رحلة التحدي أمام خيارات تزاحمت قممها بالمناكب، ما يشعر القارئ بسيرة متدفقة بمحطات التحولات، ومهام مرحلية مهمة.. في رحلته على مهمة التحدي.