الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
انتشرت في المجتمع ظاهرة الافتراء والإفتيات على الآخرين من خلال المجالس والمنتديات، وتفاقمت حدتها مع تطور وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
ولا شك أن الافتراء على الناس ظاهرة خطيرة، يتمثل بالكذب والادعاءات التي لا أصل لها، من قبل بعض البشر لإثارة الفتن، ونشر النزاعات بين الناس من خلال نقلهم للكلام السيئ أو التلفيق لبعضه بهدف تحقيق بعض المكاسب والمصالح الشخصية ازداد أمام وجود أناس يفتحون آذانهم لمثل هذه الوشايات إلى جانب الغيرة والحقد والحسد من نجاحات الآخرين.
«الجزيرة» ناقشت تلك القضية مع ذوي الاختصاص للاستنارة في كيفية الحد من مخاطر هذه الظاهرة، والسبل الكفيلة لمعالجتها.
الاستغلال السيئ
يقول فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن صالح الحميد رئيس محكمة الاستئناف بمنطقة الرياض: نهى الإسلام عن الكذب بكل أشكاله وأنواعه، وأعظم أنواع الكذب وأخطرها الافتراء والإفتيات على الآخرين والتعرض لهم في أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم والتشهير بهم، ولقد شنع الله في كتابه بالافتراء لشدة خطورته على الأمة، قال تعالى: {فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (آل عمران 94). وقال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفي بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا} (النساء 50)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كذبًا أولئك يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ إلا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (هود 18).
وجاء الوعيد الشديد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم بمن يفتري على إخوانه وأخواته ويلحق بهم الأذى بكل وسيلة من الوسائل قال عليه الصلاة والسلام: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) متفق عليه وقال: (إن أربى الربا استحلال عرض أخيك)، وأن الافتراء أشد جرمًا من الغيبة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم حكمها بقوله «هي ذكرك أخاك بما يكره» لأن الافتراء يعني إلصاق التهمة ببريء وتعدٍ سافر بغير وجه حق، وهو من أشد أنواع الظلم وقد حذر الله من الظلم كما في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا) رواه مسلم.
ويضيف الشيخ الحميد: وللأسف فإن مما استجد في الآونة الأخيرة الاستغلال السيء لوسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي فنجد أن شخصًا ما، له موقف من شخص آخر وحتى يتشفى منه يلجأ إلى الافتراء عليه بغير وجه حق، بل يلصق به قصصًا من نسج الخيال وكل ذلك من باب الافتراء والتعدي والعدوان، ونسي هذا وأمثاله عقاب الله، ونسي يوم الحساب يوم يقف بين يدي الله، وينصب الميزان يوم العرض الأكبر على الله، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، قال تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (يس 65).
والمتأمل لواقع المجتمع اليوم مع الأسف الشديد وبسبب ضعف الوازع الديني وبسبب بعد الناس عن أخلاق الإسلام يرى كثرة الافتراء وكثرة التعدي على ذمم الناس وأعراضهم مما أوجد خللاً اجتماعيًا فاختلط الحق بالباطل وكثر الكذب وكثرت المواقع الساقطة في الإنترنت التي أصبح يدخل فيها كل مغرض وكل حاقد وكل حاسد ولا رادع من دين أو خلق، ولقد حدد العلماء أنواعًا من الافتراء وهي تدخل في باب الغيبة، جاء في كتاب «فتح الباري» في باب قوله تعالى: وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا (الحجرات: 12)، قال الشارح: قال النووي: ذكر المرء بما يكره سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خَلقه أو خُلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو عدا ذلك مما يتعلق به سواء ذكرته باللفظ أو الإشارة أو اللمز، وخلاصة القول إن الافتراء مسلك مشين وخلق سافل وصاحبه وأعوانه ومن يرضى بفعله كل ذلك معرض لنفسه للإثم وعقاب الله في الدنيا والآخرة.
إهمال التعاليم
وبين الدكتور عبدالله بن مطلق المطلق المحامي والمستشار الشرعي، وعضو مجلس منطقة الرياض أن الإسلام جاء بما يقوي صلة الناس بعضهم ببعض، ويزيد من تعاونهم وتكاتفهم فيما بينهم؛ صيانة لحقوقهم، وحفظًا لدمائهم وأعراضهم ودينهم، وجاء بكل ما يقوي المحبة، ويوطد الأخوة، ويزرع التلاحم، ويبث الطمأنينة؛ فمتى ما أهملت المجتمعات هذه التعاليم الإلهية، والدروس النبوية التي تقيم شأنها، وتحمي بنيانها، وتوطد أركانها؛ فعندئذٍ يكون الضياع والدمار والتفكك والتباغض والتحاسد والتشاجر، ويعد التكافل الاجتماعي سمة لهذا الدين؛ فهو واجب ديني على الكفاية يتحتم على المجتمع القيام به؛ ولو بحده الأدنى من خلال بعض أفراد المجتمع وفاء للأمة بالمسؤولية الشرعية.
فالمجتمع المسلم لُحمة واحدة، وجسد واحد، لا يبغي عضو على آخر؛ بل يئن حين يألم الآخر، ويحصل له الأرق حين يمرض أو يصيبه مكروه، قال صلى الله عليه وسلم: (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضوًا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى) رواه البخاري.
فإذا كان هذا هو المجتمع الإسلامي في قوته وصبره وجلَده وتماسكه داخليًا وخارجيًا، وكان الفرد قد أمن بذلك، وعمل على تحقيق هذه المبادئ والأخلاق والانقياد والطاعة، فعلم علم اليقين أن عرض المسلم محرم بكل حال، فإنه ينأى بنفسه عن الافتراء على إخوانه، وذلك لأن الافتراء على الأبرياء جريمة عظيمة، وخطيئة منكرة قال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (سورة النور 15).
ولا شك أن إيذاء المؤمنين والمؤمنات، من الأبرياء والبريئات، عاقبته خطيرة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بهتانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (سورة الأحزاب 58).
توليد العداوة
ويشير د. المطلق إلى أن من أسباب الفرقة ونبذ الوحدة وجود العنصرية والحزبية المقيتة بين أفراد المجتمع مما يولد العداوة ويجرئ البعض على الافتراء على الآخرين.
وقد واجه الإسلام هذه العنصرية والتفرقة بالنقلة إلى رحم الإسلام وإخوة الإيمان وكلمة التقوى، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رجالاً كثيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ أن اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (سورة النساء: 1).
فكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما بدأ مظهرًا من مظاهر التحزب والعصبية كبته حتى لحق بالرفيق الأعلى، ولا حزبية ولا طائفية، فإذا كان ذلك كذلك فلن يخرج من المجتمع من يغلو في فكره، ولن يحقد أحد على أحد، أو يفتري عليه.
وقد أرسى النبي صلى الله عليه وسلم دعائم مجتمعه على توحيد الله، ثم دعمه بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار حين قدم المدينة، وفي الصحيحين: (قيل لأنس بن مالك: بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا حلف في الإسلام؟ فقال أنس: قد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري) رواه البخاري.
فقد عاشوا في مثالية لم تسبق، واستمرت لأربعة عقود من الزمن حتى آخر زمن الخلافة الراشدة خلافة علي -رضي الله عنه- حين ظهر ما يُسَمَّون بالحرورية الخوارج.
فإذا استطاع المجتمع أن يحافظ على تكافله؛ فإنه يكون بذلك قد سلك بهم سبيل الحق والهدى والاعتدال، اقتداءً بالسابقين الأولين.
حلول المعالجة
ويقدّم د. المطلق بعض الحلول للحد من ظاهرة الافتراء على الآخرين، وذلك وفق النقاط التالية:
* قيام العلماء بنشر العلم وتنمية الوازع الديني لدى الناس:
لقد أخذ الله العهد على العلماء أن يبينوا للناس أمور دينهم، وأن يحصنوهم من الوقوع في أي اعتداء؛ دعوة وتدريسًا وكتابة وغيرها؛ فبالعلم الصحيح يحفظ المجتمع من أي انتهاك للدين أو اعتداء لحقوق الآخرين، وبصدق العزائم، والتربية الصحيحة، والمتابعة الرشيدة يحفظ المجتمع المسلم، ويحصن داره، ويقوي بناءه، ويحيطه بسياج من الخير والصلاح، ويتعايش أفراده مع بعضهم في سماحة ومحبة ووئام.
فالعلم بالدين يرسخ تقوى الله -تعالى- في قلوب المؤمنين، ويثبت في أذهانهم الامتثال لأوامر الله - تعالى- واجتناب نواهيه، واستشعار أن الله يرى ويسمع ويعلم كل ما يفعله العباد؛ فينمِّي ذلك الوازع الديني لديهم؛ فيمتنعون من الاعتداء على الآخرين والافتراء عليهم.
* تفعيل دور المؤسسات التربوية في المجتمع:
تعد المؤسسات التربوية وسائط لترجمة أهداف المجتمع المسلم، وتحويلها إلى واقع حي يتمثل ذلك في سلوك وأخلاقيات أفراد المجتمع، وبالرجوع إلى سياسة التربية والتعليم في مجتمع ما يلاحظ أنها وضعت وفق صيغ محددة مرتبطة بأهداف وتطلعات المجتمع.
وإن من المصالح اضطلاع المؤسسات التربوية بالحث على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، من خلال المناهج الدراسية، فحرص المؤسسات التربوية على غرس القيم الاجتماعية، والمبادئ الأساسية المتينة التي يقوم المجتمع على ركائزها ينعكس ذلك على أفراده بالخلق والدين والخير والرشاد، فالدين والخلق الفاضل يمنعان المرء من الاعتداء على الغير في عرضه أو ماله أو نفسه أو عقله أو دينه، ويمنعانه من كل رذيلة.
القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر هما صمّام الأمان، والضمانة الحقيقية لتزكية المجتمع، وحفظ مصالحه وحُرماته، وتحقيق أمنه واستقراره، ولا أدلّ على ذلك من هذا المثل العظيم الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لأثر القيام بهذا الواجب الشرعي في حفظ المجتمع وسلامته؛ فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَثَل القائم على حدود الله، والواقع فيها؛ كمَثَل قوم استهَموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها، وبعضُهم أسفلَها؛ فكان الذين في أسفلها إذا استقَوا من الماء مرّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنا خَرقْنا في نصيبنا خرقًا، ولم نُؤْذِ مَن فوقَنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا) رواه البخاري.
لذلك لا بد من أمر الناس بالفضائل وتحذيرهم من الافتراء على الآخرين وعندما يفتري أحد على أخيه لا بد من نهيه عن غيه ومحاسبته.