الرسالة في لسان العرب من الرَّسل، والإرسال التوجيه، والاسم الرِّسالة والرَّسالة بالفتح، وتراسل القوم أرسل بعضهم إلى بعض، والرسول: الرِّسالة والمرسَل. وقد عرفت بذات المفردة والدلالة والعناصر في الشعر العربي القديم عند حاتم الطائي مثلاً في قوله:
ألا أبلغا وهم بن عمرو رسالة ... فإنك أنت المرء بالخير أجدر
وتعد الرسائل القصيرة (sms) المعاصرة امتداداً طيّعاً لفن الرسائل في الأدب العربي. وقد عرفت الرسائل الأدبية منذ العصر الجاهلي كفن أدبي له قيمته في التواصل؛ يقول ناصر الدين الأسد: «ومن يقرأ أخبار الجاهلية في كتب الأدب أو كتب التاريخ يعجب لكثرة رسائلهم آنذاك، ويكاد يلمس أن كتابة الرسائل في الجاهلية أمر مألوف ميسور شائع في شتى الشؤون». لكن هذا الرأي عند الأسد يتجه بالطبع إلى التراسل بالشعر الذي هو قطعاً أوسع وأظهر؛ لأن الكتابة النثرية -مع وجودها- كانت محدودة. وقد امتدت هذه الرسائل عبر العصور في ألوان مختلفة، إما في شكل مدونات مستقلة باسم الرسائل، وإما في هيئة رسائل إخوانية أو مراسلات وجدانية أدبية بيد أنها تراجعت في ظل مزاحمة الفنون الأخرى وبقيت في زوايا تواصلية إخوانية محدودة حتى كان العصر الحديث وظهور ما عرف بالرسائل القصيرة المصاحبة لثورة الاتصالات المعاصرة ومن بعدها تقنية الواتس آب التي ظهرت مع الأمريكي (بريان أكتون) في 2009 التي وسَّعت من التواصل بدعم الملتوميديا.
ولعل قيمة الرسائل القصيرة الـ sms تكمن في بقاء قيمة الكلمة لم تزاحم بعناصر توصيل أخرى كالصورة والصوت التي ظهرت في تقنيات الإرسال الأخرى، فبقيت الكلمة وما يحيط بها من أبنية تركيبية هي عنصر التواصل الأهم، وهي بهذا لا تتباين عما سبقها من رسائل سوى في الأداة الحاملة وما أضافته من سمات تقنية. وهي تحقق مثلها عناصر الرسالة. وطابع هذه الرسائل الأدبية التقنية أنها تركز غالباً على جانب المرسَل إليه فتحقق الوظيفة الاستثارية، أو تركز على الرسالة ذاتها فتحقق الشعرية برأي جاكوبسون.
بدأت رسائل الـ sms منذ ثمانينات القرن العشرين داعمة لتقنية الاتصال الشفاهي، وأول رسالة نصية أرسلت على يد البريطاني (نيل بابورث) في 3 ديسمبر/ 1992م، وقد وصل عدد الرسائل القصيرة مثلاً في عام 2011م حوالي 4000 مليار رسالة قصيرة» ما يوحي بدورها المهم في التواصل، وكان ظهورها في رسائل مختصرة تتقطع حين الإرسال، وحين شعرت الشركات المعنية بقيمة الكلمة ودورها في التواصل طورت من تقنية الاتصال الكتابي، وبدأ الناس يوظفونها في اتجاهات التواصل المختلفة، وبدأ الأدباء والشعراء بدورهم يسخرونها للتواصل الأدبي فيما بينهم، وتنشط بشكل ملحوظ في أوقات المناسبات الدينية والاجتماعية.
ولعلي أنبه ابتداء إلى أن الرسائل الأدبية على تقنية الـ sms لا تخلص للرسائل النثرية، بل تعددت الأجناس التي يتراسل بها الأدباء، فمنها الرسائل الشعرية ومنها الرسائل الأدبية النثرية، كما نلاحظ التداخل الأجناسي الذي يشهده هذا الفن الأدبي على هذه التقنية الحديثة بما يصعب معه الفصل بين الأجناس المتقاربة وخاصة القصة القصيرة جداً وقصيدة النثر والرسالة الأدبية.
(2)
اختار البحث تجربة القاص والكاتب محمد السحيمي كجزء من الرسائل الأدبية المعاصرة، وهي تمثل عينة من مجموعة رسائل smsأدبية كان يتواصل بها مع أصدقائه من عام 2008م، واستمرت لعام تقريباً فيما وصل الباحث، وكان زمن الإرسال لها ثابتاً قبيل صلاة الجمعة من كل أسبوع. وتخيرت منها ما أراه يحمل منحى إبداعياً ينشئ الاختلاف ويستحق التأمل والوقوف، وهي تمثل خطاباً سردياً له سماته التقنية.
تقترب هذه الرسائل من الرسائل الإخوانية التي عرفت في الأدب العربي، ولذا نجد أنها تحمل السمة الوجدانية الإخوانية التي تجمع المرسِل بالمستقبلين للرسالة. والرسالة التقنية تتفق مع الرسالة التقليدية في أغلب سماتها التكوينية وعناصرها؛ حيث تنشأ الرسالة من مرسل إلى مرسل إليه بعناصر محددة، بيد أن المستقبل في الرسالة الأدبية التقليدية معين، في حين أن المتقبل في الرسالة التقنية غير محدد، فقد يكون واحداً وقد يكون عددا ًكبيراً من الأصدقاء تُبعث لهم الرسالة بطريقة جماعية إلكترونية يجمعهم عنوان أفق واحد هم الأصدقاء، وظاهر من ديمومة رسائل السحيمي لمدة تزيد على عام بشكل رسالة أسبوعية كل صباح جمعة أنها ليست فردية تخص مستقبلاً واحداً ولكنها تمثل رسالة جماعية يستقبلها عدد من المتقبلين، وهو -بالطبع- ليس عدداً مفتوحاً بدون قيود يعرفها المرسل، ولكنه عدد محدد يعرفه المرسل ويختاره بعناية لبث رسالته إليهم. وسيتم تحليل رسائل محمد السحيمي وفق المسارات التالية:
1- تقوم هذه الرسائل في معطاها الدلالي على بث الروح المت فائلة وعلى دور المستقبل ذاته في صناعة حياته التي مثّل لها في إحدى رسائله بدائرة فارغة يرسم فيها هو ما يشاء، واستعان بمفردة (طفلة ترسم) لتذكير المستقبل بأنه كان يوماً طفلاً بريئاً يرسم أحلامه ببراءة كما الأطفال، ويمكن له أن يتابع رسم حياته بتفاؤل، يقول السحيمي:
حياتك دائرة فارغة أنت من يرسم ملامح وجهك فيها..
جمعتك طفلة تخطف الريشة وترسم ثغرا باسما وتهرب مكركرة..
وفي مساحة نصية تفاؤلية أخرى نجده يقترح على المتلقي رؤية استشرافية لأي مشكلة قد يكون يستشعرها ساعة وصول رسالته ليتخيل مشكلته التي يعيشها بعد فترة من الزمن، وليبعث بالتالي رسالة ضمنية أن الحياة لا تتوقف عند مشكلة، وأن الزمن كفيل بمحو آثارها مهما عظمت، تقول الرسالة:
مهما كانت المشكلة تخيل كيف ستتحدث عنها بعد عشرين عاما؟
جمعة مباركة متفائلة عشرين عاما وإن زدت فمن عندك؟
وفي نموذج آخر نجده يلتقط السحيمي فكرة زمنية يسخرها لبث رؤية متفائلة أخرى قائمة أيضاً على الزمن، ويختم الرسالة بما يثير الابتسامة القصدية لتحقيق رؤيته المتفائلة المتفاعلة بقوله: (القابلة / الداية / محمد السحيمي):
شعبان انتهى بـ ( عيد الأسبوع )
وشوال يبدأ بـ ( عيد الفطر )
وفي رمضان يفضي بعض العيدين إلى بعض لنولد نحن من جديد..
القابلة \ الداية \ محمد السحيمي!!
ويعتمد على البناء التصويري المركب في رسالته التالية لبث روح التفاؤل حيث شمس الحياة تعلمنا الانشراح والسعادة وتفتح أفقاً للسعادة مهما كانت أوحال الحياة من حولك:
حينما تسطع الشمس في الوحل فإن لم تطهره فلن يلوثها..
جمعة مباركة أنت شمسها وليكن الوحل ما يكون..
تركيز رسائل السحيمي على دعم رؤيته المتفائلة وتركيزه على بؤرة دلالية حفرية محددة كما في النماذج السابقة يقترب مما يعرف في نقد السرد بالتبئير، وهو محاولة حصر الموضوع برؤية يتركز السرد عليها.
** **
- د.عبدالرحمن بن حسن المحسني/ جامعة الملك خالد
للتواصل مع ملتقى باحثون
multaqa38@gmail.com