د.عبدالله الغذامي
حين هممت بتقديم شهادتي عن فوزية أبو خالد انتابني شعور مشاغب، لم أسطع كتمه وهو أني بصدد كتابة شهادة ثقافية عن امرأة كانت أول طلة لها على ثقافتنا بصوت المرأة المتمردة على صمتنا الثقافي الجبان، ونحن نتحدث هنا عن فتاة كانت في ريعان العمر سنين ومرجعية، فهي حين طلعتها الأولى كانت طالبة جامعية، ولم تك تحمل من الرصيد الثقافي أي مرجعية تحصن قوتها في مواجهة النسق الثقافي الصلب والطاغي والمهيمن على مجالات النشر ومجالات توجيه الخطاب ومجال تأويل القول وتفسيره ومن ثم الحكم عليه، وهي مع هذا كله تغامر في مواجهة ثورية ضد كل ما هو نسقي في ثقافتنا وفي ذائقتنا وفي تأويلنا لمعاني الأشياء، وكان ديوانها الأول يحمل جملته الثورية موجهًا إلى نحر الثقافة المستفحلة، وعنوانه يصرخ: (إلى متى يخطفونك ليلة العرس 1975 - )، وأي قراءة فحولية لهذا الجملة ستشعل حرائق الرفض والاستنكار على هذه المتطفلة الثقافية، فالديوان شكليًا ينتمي لقصيدة النثر، وهي قصيدة تتمرد على عمود الفحولة، وتخرج عن إيقاع بيت الشعر وخيمته الراسخة، ثم إنها جملة تجعل التفحيل في صيغة الغائب (إنهم) وفي معنى الاعتداء (الخطف)، وتسوق هذا مساق التساؤل الاستنكاري الذي سيواجه الصمت العربي مع ديوانها الثاني (قراءة في السر لتاريخ الصمت العربي)، وهنا تتشابك الحالة الشعرية المتمردة ضد النسقية الثقافية العربية، ومن فتاة يافعة لم تتربع بعد على كرسي المرجعية الثقافية، وتلك الفترة كانت فترة الشعر الحداثي وفي عز وهجه، وهو حالة شعرية أغراها الشكل الجديد المتمرد والمعنى المغامر والممعن في الغوص، ولكنه لم يجرؤ بعد على التحرر من النسق الذهني الفحولي وإن تحرر من النسقية العمودية، ولذا ظلت الأنا الشعرية المستفحلة هي الطاغية على واجهة الشعر، وظلت نازك الملائكة وفدوى طوقان من بعدها هما الصوتان اللتان حاولتا كسر النسقية الفحولية ولكن نازك ما لبثت أن هادنت سلطة النسق وجاء كتابها عن (قضايا الشعر العربي المعاصر) وكأن من كتبه عروضي عباسي يأمر وينهى ويجيز ويحرم، ثم تراجع شعرها ليكون صيغة أخرى من العمودية النسقية، وجاء رجال شعراء أخذوا بالثورة الثقافية، أولهم السياب وامتدت تجربته ليرثها محمود درويش بأعلى مستويات الثورة على كل ما هو نسقي، وإن جاءت فواصل رجعية متمثلة بنزار قباني وبلغت أشدها مع فحولية أدونيس ونسقيته الطاغية، حتى صار مثالاً لرجعية الحداثة العربية كنقيضمطلق لمشروع (السياب - درويش).
وتظل فوزية أبوخالد في وسط هذه المعارك الثقافية صامدة بقصيدتها وبمقالتها وبمواقفها من أجل قضية كتابها الأول أو بيانها الثقافي الأول (إلى متى يخطفونك ليلة العرس) وعبر هذا العنوان الذي صار مسيرة متصلة لها ابتدأتها بعنوان وتمثلتها في سيرة حياة.
وفي أول سطر من كتابها جاء اسم الشريفة نور الهاشمي، أم فوزية أبوخالد، هذه الأم التي كانت أمية، وجاءتها الأمية لأنهم (هم) منعوها من أن تتعلم وحين لاحظوا نجابتها وأنها صارت تحاول أن تكتب ما كان منهم إلى أن أشعلوا النار وجهزوا سيخًا ملتهبًا يكوي على كفها لكي تتعطل قدرة الكف عن إمساك القلم، وصارت الشريفة نور تصنع لعبًا تحاكي فيها شكل الحروف كي لا تنسى أنها كانت حروفًا وأنها كانت تحاول أن تكبتها، وظلت آثار الكي على كفها لا يعرف من رآها ما قصة هذا الوشم العجيب على ظهر الكف، ولكن فوزية تعرف القصة وسجلتها في قلب قصيدتها وفي ذاكرتها وفي قلب روايتها للقصة من بعد ومن بعد.
لقد تمردت الأم على قاتليها، وانتصرت في حربها المعنوية لأنها نقلت الراية لابنتها فوزية وعهدت لها بأن تحمل مسؤولية الكلمة، تكتبها وتنشرها شعرًا وفكرًا وثورة ثقافية ضد كل قمع تتعرض له المرأة، ودرسًا بأن المرأة هي من تصنع نفسها ومجدها ولن يصنعه لها غيرها، والنسق الظالم الذي أشعل نيرانه لكي يقص يدًا مؤنثة تحاول أن تكتب لم يعد بوسعه أن يقول للمطر لا تنزل على الأرض الخصبة. لقد نزل المطر دواوين وثقافة جعلتنا كلنا نعرف الشريفة نور ونعرف قصتها ونعرف منجزها الأكبر، ولا شك أن منجزها الأكبر هو هذه السامقة الشاهقة فوزية أبو خالد، هذه الشاعرة التي لا تشهد لها الثقافة ولكن هي من تشهد للثقافة، وتشهد على الثقافة، كما تشهد من أجل الثقافة، وتكتب لها ما كان ممنوعًا وتصنع ما كان محرمًا عليها صنعه، ونور التي قهرت الظلام تولدت عن فوزية التي تقهر القهر نفسه، ونصر الله فوزية، نصرها على النسق ونصرها على السرطان حين غزاها وأوشك أن يسكتها ولكنها بقوة إيمانها حولت تجربة المرض إلى درس قدمته لكل من داهمهن المرض فجاءتهن كلمات فوزية تعينهن على شق الطريق بإيمان وعزيمة، ولن يخطفوها في ليلة عرسها لأنها عرفت كيف تحمي نفسها، وهذه هي فوزية أبوخالد بنت النور وصانعة الأنوار في درب الشعر والثقافة والإرادة المؤنثة التي ظلت عمرها كله تكافح بالكلمة وبالوطنية وبالعزم وإرادة الحياة.