د.عبد الرحمن الحبيب
لسنوات طويلة كنتُ في حيرة من أناس يتميزون بالنشاط المذهل: عمل دؤوب، مهمات كثيرة، اجتماعات مستمرة، اتصالات لا تهدأ، برامج وخطط ضخمة.. وفي نهاية المطاف نجاحهم عادي وغير متميز.. عجيب، لماذا لم يصبح هؤلاء من المتفوقين المتميزين فكل المواصفات تؤهلهم لذلك؟
لكن زالت مني الحيرة عندما قرأت قصة الشاب جيم.. طالب الدراسات العليا بجامعة العباقرة «ستانفورد».. ذكي ومنظم يخطط أهدافه بعناية ويعمل بنشاط مكثف لتحقيقها. في أحد الأيام قالت له روشيل مايرز أستاذة مادة الإبداع والابتكار في كلية إدارة الأعمال بالجامعة: «لقد لاحظتُ عليك، يا جيم، أنك شخص غير منضبط».
يقول جيم: صُدمتُ وانتابتني الحيرة.. فأكملت روشيل القول: «إن مستوى حيويتك العالية يتيح لك عدم الانضباط، فبدلاً من أداء حياة منضبطة، أنت تؤدي حياة مزدحمة». ثم أعطتني أهم درس، قائلة: افترض أنك استيقظت غداً وتلقيت مكالمتين هاتفيتين. الأولى تخبرك بأنك ورثت 20 مليون دولار. والثانية تخبرك أنك مصاب بمرض بلا علاج، وليس لديك أكثر من 10 سنوات للعيش. ماذا ستفعل بشكل مختلف، وعلى وجه الخصوص، ما الذي ستتوقف عن فعله؟
أصبح هذا الدرس نقطة تحول في حياتي، يقول جيم، وأصبحت قائمة «التوقف عن فعل» حجر الزاوية الدائم في قراراتي بداية كل سنة.. إنها آلية للتفكير المنضبط بشأن كيفية استخدام أغلى الموارد: الوقت. كان لدي الكثير من الحيوية، ولكن على الأشياء الخاطئة. في الواقع، كنتُ على الطريق الخطأ تماماً.
هذا هو البروفيسور جيم كولينز مؤلف الكتاب الشهير «من جيد إلى عظيم» الذي أصبح من عناوين إدارة الأعمال، مقترحاً تجربة فكرية مثيرة في إزالة أشياء اعتدنا على عملها وتأخذ وقتاً ثميناً بفائدة ضئيلة، على مستوى الفرد والعائلة والعمل. لقد تعلمنا منذ الولادة على القيام بطرق منهجية لتحقيق أهدافنا، وهذا سليم، لكن مع مرور الوقت تتراكم أساليب وطرق أخرى، وننتهي بقضاء وقتنا على أشياء ليست مهمة.
في كتابه «كيفية تجنب العمل»، يُقدم ويليام رايلي الأسباب الثلاثة الأكثر شيوعاً التي نعطيها لعدم القيام بما نريده: ليس لدي الوقت؛ ليس لدي المال، الآخرون لا يريدونني عمل ذلك. إنما الوقت موزع بيننا بالتساوي وهو أثمن ما نملكه؛ فكيف نستخدمه؟ كولينز يطرح أفكاراً مثيرة لاستثمار الوقت، فمشكلتنا أننا نُقدر القرارات لإضافة أشياء أكثر من تقديرنا القرارات لإزالة الأشياء.
في دراسة على بيانات 11 شركة تحولت من عادية إلى متميزة، من جيدة إلى عظيمة، يقول كولينز: احترتُ في تقصي الخطوات الرئيسية التي عُملت وسببت هذه التحولات. لقد صُدمت أنا وفريق البحث بكم من القرارات الكبيرة ليس حول ما يجب القيام به، ولكن ما يجب التوقف عن فعله. كان المتوقع أن هذه الشركات الناجحة وضعت خططاً أو برامج حول ما يجب فعله؟ لكن المفاجأة أنها كلها توقفت عما يجب عدم فعله؟
يقترح كولينز، أيضاً، ثلاث دوائر خاصة بك لتسأل نفسك ثلاثة أسئلة كآلية توجيه شخصي: ما العمل الذي تعشقه بعمق؟ ما ميولك الوراثية للأنشطة التي تشعر أنها مناسبة لك؟ ما الذي يجعل عملك اقتصادياً للعيش؟ وفي محصلة هذه الأسئلة: ما هي النسبة المئوية من وقتك تقع خارج الدوائر الثلاث؟ إذا كانت النتيجة أكثر من 50?، فأنت بحاجة لقائمة «التوقف عن أعمال تفعلها» فقد تكون أهم أداة للتفوق..
لاحظ أن السؤال الأول قد يتعارض مع الثالث، لذا يقول البروفيسور كالفن نيوبورت: هذا تناقض، اتباع عاطفتك، مشورة فاشلة جداً. أما رولف دوبلي، فيذكر في كتابه «فن التفكير بوضوح»: إننا لا نعرف بالضبط ما الذي يجعلنا ناجحين أو سعداء لكننا نعرف تماما ما الذي يدمر النجاح والسعادة. هذا الإدراك البسيط أساسي لمعرفة «ما الذي علينا عدم فعله» أهم بكثير من معرفة «ما الذي علينا فعله».
كولينز ينظر إلى الحياة كاملة، قائلاً: إذا نظرت للوراء، أرى روشيل واحدة من قلائل جمعوا بين حياة عظيمة وعمل عظيم. هذا يرجع لحد كبير لبساطتها الرائعة. منزل بسيط، جدول زمني بسيط، إطار عمل بسيط. تحدثني روشيل مراراً عن فكرة «جعل حياتك عملاً إبداعياً من الفن». قطعة فنية كبيرة لا تتكون فقط مما هو فيها، ولكن بنفس القدر من الأهمية، مما ليس فيها. إنه الانضباط لتجنب ما لا يصلح به العمل ويكلف سنوات من الجهد الضائع.. إنه الذي يميز الفنان الاستثنائي، ويمثل قطعة عمل مثالية، سواء كان سيمفونية، رواية، لوحة، شركة، أو الأهم من كل ذلك، حياتك الشخصية.
في محاضرة لكولينز سأله أحد الحضور ما هي قائمة «التوقف عن فعل» لديك في السنة الجديدة؟ فكر لبرهة، ثم أجاب بأن الخطوة الرئيسية في شركته هي التخلص من الطبقات الإدارية من أعلى لأسفل واستبدالها بنموذج الشبكة المحورية. الثاني هو التخلص من الاتصالات غير الضرورية.. ثم أخذ نفساً عميقاً، وقال: الثالث هو الأهم.. راودني منذ سنين، التوقف عن مشاهدة التلفزيون.. لقد حان الوقت للنشاط الرائع المُسمى: التفكير والقراءة. والآن، فكر: ما الذي ستتوقف عن فعله؟