د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
«لحظة طاحت بأحلام الكرى، وتولى الليل والليل رفيق» لسان مسعود برزاني بعد أن أفاق على القوات العراقية، وقوات الحشد الشعبي وقوات الباسيج في قلب كركوك وفي حقول النفط المحيطة بها دونما مقاومة. هكذا التاريخ يعيد دروسه. وكركوك مدينة تاريخية أثرية قديمة عمرها يتجاوز 5000 عام. تعايش فيها خليط من العرب، والكرد، والتركمان، واليهود (قبل الهجرة لإسرائيل). تبعد كركوك عن بغداد 240 كيلومتراً فقط حوّلها النفط لمدينة جاذبة للأعراق والعرب الأكثرية منهم قبل أن يتم تكريتها مؤخراً. تاريخ كركوك العريق لم يجنبها الحروب والصراعات التي أشعلتها أطماع النفط والغاز والمال. وتسمى كركوك تاريخيًا «بأرض النار الأزلية» لأن غازها دائم الاشتعال بحكم قربه من سطح الأرض، لكنها تحولت لأرض الصراعات الأزلية بسبب طمع أطراف مختلفة فيها، فالأكراد يدعون حقًا تاريخيًا بها، والعثمانيون استعمروها وأقاموا فيها حامية وشجعوا التركمان على الاستقرار فيها ومنحوهم أراضي وإقطاعيات. فقدر كركوك الجميلة العريقة المتنوعة الأعراق أن تكون مدينة جاذبة للصراعات.
لكردستان الحديثة صولات وجولات مع حكومة بغداد المركزية، وصراعات داخلية بينما ما يسمى بأكراد السليمانية وأكراد أربيل. فقد أسس أكراد أربيل الحزب الديمقراطي الكردستاني ومعه قوات البشمركة في عام 1947م، وترأس الملا مصطفى البرزاني، والد مسعود، الحزب حتى توفي عام 1979م في واشنطن. ودعمت إسرائيل وأمريكا وبريطانيا وإيران وكل من كانت له عداوة مع العراق الأكراد في خلافاتهم مع بغداد. ودعمتهم إيران إبان الحرب العراقية الإيرانية وكان البرزاني الأب يقيم فيها. أما جلال طالباني، الزعيم الآخر لكردستان، كردستان السليمانية، فكان عضواً في الحزب الديمقراطي الكردستاني ويتبع للبرزاني حتى عام 1975م، وانفصل عنه لعلمه بأنه يحتضر، فأسس الحزب الوطني الكردستاني بدعم خفي من بغداد. ومن حينه أصبح لكردستان قيادتان تتصالحان تارة وتتخاصمان تارات أخرى. وكانت الحكومة العراقية تتلاعب بهذا الاختلاف فتقرب جماعة طالباني، التي لا ترى ضيرًا من البقاء ضمن عراق موحد على حساب جماعة برزاني المتعصبة للقومية الكردية التي كان طموحها الدائم وقتالها المستمر من أجل انفصال كردستان في دولة مستقلة.
قدم حظر الطيران على شمال العراق في1991م فرصة تاريخية لازدهار الإقليم الكردي بسبب الحصار وتردي الأوضاع في الجنوب وانتهاز تركيا ظروف الحرب لمد خط نفطي من كردستان إلى ميناء جيهان التركي دون موافقة بغداد. وبطلب من أمريكا، في عام 1992م توحد الأكراد في قيادة مزدوجة من الحزبين: الديمقراطي بقيادة مسعود برزاني، والوطني بقيادة جلال طالباني. ولكن الخلافات دبت سريعًا بينهم حول اقتسام الثروات التي هطلت فجأة على الإقليم وحولت أسر بارزاني وطالباني إلى شبه عشائر منتفعة من أموال النفط في كركوك والسليمانية وغيرها مستغلة الفساد الاقتصادي والسياسي في الإقليم فطلبتهما أمريكا وبريطانيا لاجتماع مصالحة وقتية آخر في واشنطن في 1998م، ومن تاريخه تحولت كردستان إلى تنين عشائري برأسين.
تولى طالباني رئاسة العراق الديمقراطي شكلاً في عام 2015م، عراق ولد بعد الحرب بسيطرة شيعية وتدخل إيراني. وأبقى برزاني على علاقة ملتبسة مع بغداد يترقب الفرص لإحياء تراث والده الانفصالي. وما أن توفي جلال طالباني حتى رشحت حكومة بغداد فؤاد معصوم من حزب طالباني رئيسًا لعراق حفاظًا على خيوط التواصل مع الأكراد، بينما استمر بارزاني في إحكام قبضته على الإقليم كرئيس أوحد له مستغلاً انشغال بغداد في حربها مع داعش وسنة العراق. وقد دخل الأكراد من البداية في حسابات خاطئة عندما اعتقدوا أن تحالفهم مع حكومة بغداد والحشد الشعبي والاستخبارات الإيرانية ضد السنة سيمنحهم مزيدًا من الأراضي والاستقلال ومنها كركوك وسنجار وغيرها، ولم يفطنوا إلى طابع الحرب الطائفي وإلى غدر إيران.
همّش بارزاني الحزب الوطني، واعتقد خاطئًا أنه يسيطر على جميع البشمركة بما فيهم من يقودهام الحزب الوطني، فأعلن الاستفتاء تمهيدًا لإعلان انفصال الإقليم. إلا أن الحرب الشيعية على أقاليم السنة انتهت، وتفرغت بغداد لموضوع كركوك، ورصدت المخابرات الإيرانية الامتعاض الكبير في السليمانية القريبة من حدودها من انفراد بارزاني في السلطة فاتفقت معهم على تسليم كركوك وجزء كبير من معدات عسكرية لحكومة بغداد مقابل وعود بحصة أكبر من غنائم النفط، ودور سياسي أوسع في إدارة الإقليم وساعدهم في التفاوض الرئيس العراقي فؤاد معصوم. أما بارزاني فقد دفعته أطماعه لحسابات خاطئة أخرى مما دفع إلى إجهاض حلم الدولة الكردية على الأقل في المستقبل القريب. وهذا يرسخ المبدأ التاريخي المتعارف عليه من أن قيادتين لإقليم واحد لا بد أن تنتهي بطمع إحداها في تصفية الأخرى. فكان أن تغدى أكراد السليمانية بأكراد أربيل قبل أن يتعشوا بهم.