أحمد المغلوث
كان ذلك قبل عقود بعيدة عندما كانت الهواتف في مكاتب الإدارات محدودة ولا توجد إلا لدى رؤساء الأقسام، وعندما يحتاج أحدهم إلى اتصال بغيره يتم ذلك عبر السنترال. وفي مكتبه البسيط تناثرت عليه المعاملات وبعض الاكسسوارات المكتبية.. أجندة أم القرى.. ثقالة أوراق دباسة.. وهاتف أسود اللون بقرص دائري.. عندما رن الهاتف رفع السماعة فقال له عامل السنترال: طال عمرك.. لحظة.. البيت معك. وراح يرحب بزوجته على مضض فهو الآن في العمل وأول الدوام ولديه اجتماع بعد نصف ساعة.. ويالله صباح خير قالها في نفسه وهو يستمع لطلبات زوجته وياكثر طلبات زوجته، ومن المثير انها لا تطلب منه شيئاً الا عندما يأتي للعمل، أليس بالأحرى بها ان تطلب ما تريد وهو في البيت؟ لكنه ابتلع تساؤله الحائر ودفنه داخل ذاكرته وراح يستمع على مضض لمكالمة زوجته.. لا تنسى يا بو سعد تجيب معك لنا كم كيلو لحم.. وكيس رز بشاور.. وتمر سوق الخضرة وتجيب اللي نحتاجه خصوصا «على ولم» مشتهية أعمل اليوم صينية هذا العلي اللذيذ؟!.. نقل السماعة الى يده اليسرى وبدأ يكتب طلبات الزوجة التي لا تنتهي.. فجأة سمع زوجته تصرخ يمه.. يمه.. كانت الصرخة مخيفة.. ثم أعقبها صمت وانقطاع الاتصال..! فذعر وخاف.. ولم يتردد أن يتصل بالسنترال ويطلب منه الاتصال بهاتف بيته. ولكن مضت محاولات موظف السنترال دون جدوى فلا أحد يرد في بيته واعتذر الموظف، عندها طلب منه ان يتصل بشقيق زوجته والذي يعمل في نفس المدينة وليخبره بان شقيقته اتصلت به وبعدها حدث أن صرخت بصورة مخيفة أفزعته فهو الآن قلق.. وحاول الاتصال بها لكنها لا ترد على الهاتف ويريد منه الاستئذان من عمله والتوجه بسرعة الى بيتها للاطمئنان عليها.. لم يتردد شقيق الزوجة فأسرع واستأذن وركب في أول سيارة تكسي صادفته.. وطوال الطريق من الهفوف للمبرز وهو يعيش القلق والخوف ويدعو الله مخلصاً أن تكون شقيقته بخير.. فهي في بيتها الطيني لوحدها فالاولاد في المدرسة الآن.. وراح الشيطان يوسوس له.. ربما دخل عليها حرامي.. او مصيبة.. كارثة.. وراح يلف له سيجارة بيده المرتعشة حتى ان سائق التاكسي لاحظ اضطرابه من خلال سقوط علبة الدخان المعدنية من يده.. ولم يتردد السائق أن راح يذكره بأن يقرأ المعوذات.. والآيات الكريمة المطمئنة.. وان يسمي ويتوكل على الله.. فإن شاء الله خير.. السيارة تسير في طريقها المشبع بالحفر والمطبات.. وشقيق الزوجة يهتز قلبه مع اهتاز السيارة.. وأخيراً وصل إلى الطريق المؤدي إلى بيت شقيقته.. ترجل من السيارة وطلب من السائق الانتظار في ناصية الطريق حتى يطمئن على شقيقته ومن ثم يعود معه ليكمل دوامه. هرول مسرعا إلى البيت.. وجد الباب مفتوحا انزعج أكثر ووجد شقيقته في رواق البيت مغمى عليها وإلى جانبها سماعة الهاتف المتدلية من (الروزنه) ودلة القهوة «الرسلان « منكفيه على السجادة الافغانية وفنجان القهوة مكسور والقهوة منسكبة من الدلة وقد رسمت اشكالا تجريدية على «الدوشق» المطرز بالخيوط الملونة، وحين أفاقها راحت تردد: ما يزال في البيت.. وقد يكون قد دخل الى الغرفة «العودة» أو في الدولاب الكبير.. فقد هجم علي. فقاطعها شقيقها وهو وجل: ما هي أوصافه؟. فقالت وهي ممسكة بذراعه: أوصافه.. أوصافه.. فار كبير كبير مثل الجربوع..!!