د. خيرية السقاف
كان علي أن أودع صفحة المقال في صندوق الجريدة قبل اللحظة هذه..
لكن هذه اللحظة فقط تداعت الفكرة, ولو أن غيرها تخاتلني, وتلوح, ثم تذهب, وتعود..
والوقت يمرق في هدأة الليل, مع أنه يوحي بامتداد, ويفيض بالسكينة..
وفي مثله تتماهى الحروف بالكلمات, وتفيض..
للكلمات طيوفها, وللأفكار لواعجها, وقارئ اليوم عجول, سريع, لا يتأنى, يريد مقالة كما وجبة جاهزة, يستلمها من نافذة العربة, يلتهمها في ثوان, تغريه بنكهتها المصنَّعة, لا يعنى كثيرا بمحتواها, ولا يوائم بين فائدتها, ومضارها!!..
والمقالة الوجبة السريعة غالبا ما تكون كذلك, وأنا لا أجيد صياغة الطبخة السريعة، ولا أطعِّمها بنكهات الوجبات..
لذا أقف عند أبجديتي، أتأملها, أنسجها بميسم دقيق, وأنحتها من منجم عميق, وأجتاز بها للذواقة وحدهم..
فقدري أن تكون خيوطا من شمس, وفسيفساء من حبل سري ممتد من نياط في أقاصي القلب، والعقل, والمخيلة, وهدي الآي, وحكايات القاموس..
وقدري أن كان لي أبٌ يفزُّ عند اللّحن في الكلم, يقطِّب للهشاشة في الصياغة, يأبى للمعاني أن تتسطح, وللبلاغة أن تُزيَّف, وتنفرج شفتاه عن ابتسامة عريضة كلما تناغمت الحروف في صياغاتها, وهيمنت اللغة بسيادتها, ومنحت المخيلات أن تتدفق, والرموز أن تتفتق..
مدرسة صارمة تلك التي ربيت فيها أظفارَ حروفي, وقلَّمتُ فيها أجنحةَ كلماتي..
تعود بي الفكرة لحظتها الأولى..
ما تعودت حديثا عن الذات, وما بسطت بعدُ مسيرةَ الرحلة..
لكن بين جيئة فكرة, وذهاب أخرى, تمر الكتابة بمحض اعتراف, في مرور سانحة, ومروق نبضة!..
أجل, الكتابة صعبة, وغالية, هذا اعتراف شفيف وصادق..
فهي ليست مهنة لمن لا مهنة له إلا الكتابة, وهي ليست حرفة لمن يحترف ركوب صهوتها,
فخطامها لا تسلمه لمن لا يستقر به جُوادها..!
الكتابة هذا الشغف, في هدأة الليل لا يقرُّ نبضه,
وهي الشغف في لجة الموج لا ينطوي وهجه,
وهي الشغف في منجم البلاغة لا يحترق فتيله,
وهي الشغف في الصمت صوت, وفي الصخب فيض, وفي الهدوء حِداء
لا ثمن لها البتة, ولا يقيِّمها ميزان!!..
و..
تجاوزت موعد إيداع المقالة صندوقَ الجريدة..
وعليَّ أن أفعل الآن..
أستميح الكتابة عذرا..
ولكم أن تتغافلوا عن بوح القلم في هيمنة الهدوء!!..