د.فوزية أبو خالد
يقول المؤلف الأمريكي هنري ميللر صاحب كتاب (الكتب في حياتي) - وهو بالمناسبة ليس كتابًا من تلك الكتب الفائضة عن تطوير الذات -: «حين أقرأ أبحث عن الكاتب القادر على تمكيني من التفوق على نفسي». وربما يصح أن أضيف إلى ذلك القول: إن الإنسان حين يقرأ، خاصة في أوقات التحولات الحادة ومنعطفاتها الغامضة والتواءاتها الخطيرة، فإنه يبحث باعتباره مخلوقًا اجتماعيًّا وكائنًا سياسيًّا و(ذات مفكرة) عن الكاتب القادر على تحدي لحظات العماء العام، سواء من شدة العتمة أو من بريق الأضواء بكلمة شفيفة ورأي عقلاني رشيد.
ولعل هذا البحث هو هاجس الكاتب أيضًا بقدر ما هو هاجس القارئ عبر تاريخ القراءة والكتابة، وعبر تواريخ الاستقرار والتحول في الاجتماع البشري. وهذا الحال من البحث لعله على أشده في الواقع الراهن، خاصة مع تعدد وتشابك الأسئلة، وتعقد وتنوع الأسباب، بما ينطبق علينا اليوم قراء وكتاب في المجتمع العربي وفي المجتمع السعودي أيضًا.
وبمقاربة تاريخية قريبة نجد أن لكل عقد - وليس لكل عصر وحسب - تحدياته التي لا بد أن مشتغلي الكتابة عمومًا وكُتاب الرأي على وجه التحديد يجدون أنفسهم معها في مواجهة شرسة للحفاظ على الخطوط العامة للمبادئ الإنسانية الأساسية فيما يكتبون إزاء مراوغة التغيرات السريعة الزئبقية للمشهد السياسي، وربما حاليًا أيضًا إزاء النقلات النوعية العارمة في العالمين الافتراضي والواقعي معًا بقضهما وقضيضهما الاجتماعي والثقافي والتقني. كما أن تلك الذوات المفكرة أو بالأحرى التي مهنتها وهوايتها التفكر والبحث، وإن لم يوكل لها هذه المهمة أحد، تجد أقلامها وحبرها وكل أدواتها المعرفية في مواجهة لا تقل شراسة عن المواجهة الأولى أمام واقع مثخن بالكبوات والانكسارات. وعدا هذا التحدي الضميري على المستوى القيمي والأخلاقي فإنهم مواجهون بنفس التحدي الضميري على المستوى المعرفي والتحليلي والاستشرافي وسط مركب من الضبابية واختلاط الأوراق وضائقة الحرية وانفلات إيقاع التحول بين سبات عميق وفرط الحركة في الغالب بغير بوصلة.
ولو وضعنا بداية تقريبية لهذا التحدي في عالمنا العربي كما سجَّله الكواكبي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني والبستاني وشميل، والمهجرون في الهزيع الأول من عصر حلم النهضة العربية ولمساراته التالية على تذبذبها كما سجله قسطنطين زريق وساطع الحصري وعلي الوردي والخولي وفؤاد زكريا وكمال أبوالمجد وعبدالوهاب المسيري وحليم بركات وهشام الشرابي وعاطف غيث وسمير نعيم والجابري وهشام كاليطو وخلدون النقيب ومحمد الرميحي.. إلخ.. إلى ما بعد الهزيع الأخير من نهاية ذلك الحلم، فإنه لن يسعني إلا اختيار البداية من مكان ما، وليكن بداية معاصرتي المشهد السياسي وكتابات الرأي به..
في السبعينيات الميلادية كانت الصورة واضحة: الصراع العربي - الإسرائيلي، الهيمنة الإمبريالية على منابع النفط ومناطق النفوذ، والمراوحة بين التبعية والتخلف..
في الثمانينيات الميلادية تساوى استتباب العسكر باستتباب الملكيات بعد مآلات الثورة الإيرانية إلى دولة طائفية أحادية تصفوية، وتفرق دم المقاومة في الصراع العربي - الإسرائيلي، وفلسطينيًّا تحديدًا بين الأنظمة العربية، وقيام البؤرة الأفغانية لامتصاص فائض التمرد الشبابي بالعالم العربي والإسلامي.. ومراوحة التنمية بين النكوص والنمو اللامتكافئ بتعبير سمير أمين وقتها..
في التسعينيات الميلادية جاءت حرب الخليج الثانية لتفرض تحديًا جديدًا من نوعه على خيارات العالم العربي المعتادة المحسومة تحت تلك العناوين الفضفاضة للتحولات «المتعثرة»(.. الوحدة.. القومية.. الأمة الخالدة.. إلخ). كما مثَّل عقد التسعينيات سجالاً مبهمًا مكتومًا بين الانكفاء والعزلة بمعناها الماضوي والمكاني فيما سُمي بالصحوة مع أنها في واقع الحال شكلت على مستوى السلوك الاجتماعي والخطاب الثقافي مدًّا عربيًّا عامًّا.. لم يكن انتشار الحجاب وظاهرة الدعاة الشيوخ والشباب إلا تمثيلاً رمزيًّا له، وبين محاولة الخروج بوجل في نهاية العقد على مسلَّمات التسييس الديني على وقع الركلات الأولى مما سمي لاحقًا عالميًّا بـ»ظاهرة الإرهاب».
وقد سجل العقد الأخير من القرن العشرين تجربة لن يُمحى أثرها بسهولة من عمليات الاكتواء بأدوات الأحادية الفكرية والتحيز لقوى اجتماعية ضد أخرى، أو بالأحرى توظيف تناقضاتها ضد بعضها، بما أفضى لعداوات في حب السلطة وكرهها معًا. ومن شواهد ذلك تعميق خلط المفاهيم العصرية للدولة والمجتمع بالفتاوى والخطاب الرسمي، تذويب الذات الاجتماعية ومعادلة الوطن بشخص الحاكم أو الطبقة الحاكمة، بما مزق النسيج الاجتماعي أو كاد، ومحا كل ملمح من ملامح الطيف السياسي إلا ما كان في حضرة الرسمي والإسلامي السياسي. هذا عدا ما اضطلعت به البوصلة السياسية لعقد التسعينيات من تورط أليم وأثيم في وأد نسغ المقاومة على مستوى سياسي وقيمي بحشر كل أثر لها في المنطقة من اليمن للشام مرورًا بمصر والمغرب العربي في عربات تسويات أوسلو..
أما بداية الألفية الميلادية الثالثة فقد كانت البداية لنسف المنطقة ومعادلاتها السياسية المستتبة باستسلاماتها ومسلَّماتها التي وعينا عليها (الجيل الذي وُلد في الخمسينيات والستينيات)، ولتفكيك جدل التحولات المتعارف عليه لتخلق تحديات جديدة من نوعها باقتراب نهاية العقد الثاني. مع ملاحظة أنه على اختلاف تلك التحديات نوعيًّا عما سبقها على مستوى الوجود والفكر والخيال، وليس على المستوى السياسي وحسب، فقد كانت تشكل مزيدًا من التعقيد لكل المعضلات السابقة التي لم يتم حلها طوال القرن الماضي.
هذا العرض السريع يقدم بطبيعة الحال اختصارًا مخلاً لمد وجزر تحولات تلك المراحل عربيًّا أكثر منه سعوديًّا..
إلا أن ما يُثير الشفقة وليس الأسئلة فقط أنه بقدر اتساع الفضاء لأجنحة الكلمة، خاصة الفضاء التقني مع تصاعد وتيرة الحدث في العقد الثاني من مرحلة الألفية الثالثة، بقدر ما صارت تحك جماجمنا مضائق الظلام فتبدد محاولة التفكير الرشيد في متاهة الهوى السياسي وميول الأيديولوجيا، وتحول أمرنا بأيدٍ كثيرة باستثناء أيدينا..
أشعر أحيانًا أنه ربما نجد شبه مخرج وليس حلاً جذريًّا بالضرورة بأن تتداعى قلة والأفضل كثرة من قوى فكر عقلاني، مجرد مواطنين يحاولون أن يفكروا بشيء من الرشد لمؤتمر أو لقاء أو اجتماع على مستوى وطني عربي إقليمي لمجرد إطلاق عنان الخيال في مآلات المنطقة المرعبة والبحث عن ريشة أو قطرة ماء تقف في وجه هذا الخراب الذي جرته الحروب على المنطقة. تبدو لي الفكرة طفولية مثل اليسار الطفولي وأنا أتابع أخبارًا لملمت الجراح على نفس جراثيمها، أو حتى حين أحضر - وإن صرت نادرًا ما أفعل - مؤتمرات ولقاءات لا تعمل على أكثر من تهيئة موائد فارهة أو متواضعة لعلج نفس الرطانة المبهمة التي صارت تتقاسمها النخب الرسمية والمجتمعية معًا. ولا أعفي نفسي من مثل هذا الوزر الذي سيبقى وزرًا عامًّا ما لم نعِ مجتمعًا وساسة وكتّابًا على مستوى عربي أن الفكر ببُعديه الأكاديمي للعلوم الإنسانية وبكتابة الرأي التحليلية الاستشرافية بوصلة الأوطان..
وأختم بسؤال:
هل توجد في عالمنا العربي اليوم علاقة ما غير عدائية أو متوجسة بين بصيص الفكر وبوصلة السياسة؟