عماد المديفر
كنت تحدثت عن التهديد الخطير لظاهرة «الإرهاب الإسلاموي» في العصر الحديث على العالم أجمع بشكل عام وعلى المسلمين بشكل خاص، وكيف أن هذه الظاهرة تستهدف بشكل مباشر المصالح الحيوية للدول والشعوب العربية والإسلامية، الأمر الذي يستلزم معه وجوباً محاربة هذه الآفة بكل قوة وحزم فالمهدد الأمني حقيقي ومتغلغل، والتهديد وجودي.. فإما أن «نكون أو لا نكون» كما قال فرج فودة وشكسبير من قبله في مسرحيته العظيمة «هاملت».
كما أن مكافحة الإرهاب في شقها العسكري والأمني على أهميتها القصوى والحرجة؛ إلا أنها مجرد تعامل فقط مع جزء من أعراض هذه الظاهرة.. صحيح أنه جزء خطير جداً، ومن ورائه نهايتنا بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، إلا أنه يظل أحد «عوارض» المرض.. وعوارض المهدد الحقيقي، والذي سيستمر في إنتاج المزيد والمزيد من المهددات الأمنية المادية الملموسة في حرب استنزاف متواصلة. بيد أن المكافحة الحقيقية لـ «الإرهاب الإسلامي» هي في المجال الفكري والتربوي والتعليمي قبل أي شيء.. إنها حرب إعلامية وتعليمية وتثقيفية مخططة، وينبغي ضمن هذا السياق استحضار خطر آخر حقيقي يعمل عليه القائمون على هذا «المرض» والناقلون له.. إنها الأفعى التي ما انفكت تلدغ جسد العرب والمسلمين نافثة فيه «سُمها» الزعاف، ثم وفي عملية خبيثة جداً؛ تقوم بالتضليل والتورية حول مصدر هذا «السم»، لتقول بإن منبعه روح هذا الجسد.. وعقله.. مدعية أن هذا «السم» جزء أصيل من هذا الجسد، ناسبة إياه لمنهج السلف الصالح.. والذي هو مجرد منهج علمي، يماثل في هيئته ودوره «الدراسات والأدبيات السابقة» أو «Literatures, Theories الجزيرة Critical Evaluations Reviews» في الأبحاث والدراسات العلمية الإمبيريقية أو النوعية الحديثة، وهو مكون أصيل من مكونات المنهج العلمي الحديث، لفهم العلوم، ونصوصها، والبناء عليها، لا يمكن بحال من الأحوال تجاوزه علمياً ومنهجياً.. وهدف تلك الأفعى الخبيثة من ذلك لا يقل عن هدفها في نشر «الإرهاب».. ألا وهو استهداف الدول والشعوب العربية والإسلامية في فكرها وهويتها وعقيدتها.. وجعلها في غيابة الجهل والتطرف والضياع والظلام.
ومن هنا جاءت أهمية وجود كليات علمية في جامعاتنا، ومراكز بحثية في مدننا ومجتمعاتنا، تعنى بدراسة «ظاهرة الإرهاب الإسلامي»، لتسبر أغوارها فكرياً وعقائدياً، وتبحث في منابعها الآيديولوجية والتنظيمية والحركية.. لتكشف كنهها، وتفضح منهجها، وتضع يدها على الجرح في هذا المرض العضال.. والسم الفعال.. وفي غيره من القضايا المهمة المعاصرة في المجتمعات المحلية والإسلامية والعالمية.. وتعمل على التأصيل العلمي والعملي في كيفية علاج تلك القضايا، والتعامل معها، والمساهمة في أمن وسلامة المجتمعات والدول والشعوب.. وتتواصل وتتعاون بمقتضى ذلك مع العديد من المراكز البحثية والأكاديمية في العالم، من أقاصي الشرق إلى أقاصي الغرب، وتشارك في الندوات والفعاليات الفكرية والأمنية، وتترجم نتاجها العلمي لكل الأقطار واللغات.. وهو ما طالبت وأطالب به باستمرار منذ سنين.. إلى أن وقعت فعلياً على نواته مصادفة حين كنت أعمل على دراستي حول «منابع الإرهاب الإسلامي في العصر الحديث»، ولا تتخيل سعادتي إذ ذاك عزيزي القارئ الكريم.. إنها «الريادة العلمية والمنهجية في تأهيل الباحثين والخبراء لدراسة القضايا المعاصرة محلياً، وإسلامياً وعالمياً».. تلك هي رؤية قسم «الدراسات الإسلامية المعاصرة» الذي وعدتكم بالحديث عنه بشيء من التفصيل في هذه المقالة.. إنه القسم الذي أُنشئ حديثاً في جامعة الإمام محمد بن سعود، والذي حوى عدداً من المقررات الأكاديمية المهمة، وأذكر منها على سبيل المثال: الأمن الفكري، التيارات الفكرية المعاصرة، النظم الاجتماعية المعاصرة، النظم السياسية المعاصرة، الحركات الإسلامية المعاصرة، حقوق الإنسان، الإصلاح والتجديد، الحقوق والحريات، منهجية التفكير والنقد، فقه الخلاف والاختلاف، الوسطية والاعتدال.. وغيرها من المقررات الهامة التي تمثل علماً حديثاً معاصراً، الأمر الذي انعكس على عناوين البحوث التي يقوم عليها الدارسون فيه، ومنها على سبيل المثال أيضاً: أصول الحركات الإسلامية المعاصرة، توظيف مواقع التواصل الاجتماعي في تعزيز الوسطية، أساليب الجماعات المصنفة إرهابياً في التأثير على الشباب، أساليب الاستقطاب والتجنيد لدى المنظمات الإرهابية، الثابت والمتغير لدى الحركات الإسلامية المعاصرة - الإخوان المسلمون أنموذجا، الانحراف الفكري المعاصر لدى الخوارج.
وبكل تجرد أقول بإن نخبة من الأكاديميين القائمين على جامعة الإمام محمد بن سعود، وعلى رأسهم معالي رئيس الجامعة البروفيسور سليمان أبا الخيل، وأول رئيس لقسم «الدراسات الإسلامية المعاصرة» الدكتور إبراهيم المطلق، وكوكبة أخرى معهم، استطاعوا بحسهم العلمي والفكري والأمني التفاعل مع المتطلبات والحاجات الدينية والوطنية والأمنية والفكرية المعاصرة، فبادروا ببناء هذا الصرح العلمي الوليد والفريد.. والذي بقدر ما أنا سعيد جداً بوجوده، والذي لا أعلم له - على أهميته القصوى - مثيل في الجامعات والمعاهد في العالمين العربي والإسلامي، بقدر ما أنا حزين من كونه مجرد «قسم» في معهد لا يحمل حتى اسمه.. ومعني فقط بالدراسات العليا!
وهنا أتساءل: كم من الكليات والمعاهد والأقسام في منظومتنا التعليمية تجدها مجرد تكرار لغيرها.. وتخرج وتنتج المزيد والمزيد من المخرجات والشهادات العلمية المتشابهة التي تتسبب في إغراق سوق العمل.. فتكثر البطالة وهدر الطاقات البشرية والمادية! في حين كم من تخصصات مهمة وحيوية لا نرى لها وجودا؟! أو أنها نادرة جدا.
إن هذا القسم الذي وجدته في جامعة الإمام كحالة فريدة في منظومتنا التعليمية والأكاديمية على أهميته أمنياً وفكرياً ومجتمعياً، هو مجرد (قسم) في (معهد) معني بـ (الحسبة والدعوة)؟! رغم أن قسم الدعوة لا يختلف عملياً عن أقسام أو كليات «الإعلام».. ويوجد في جامعة الإمام بالفعل كلية مختصة بالإعلام.. فلماذا هذا التكرار؟ كما أن «الحسبة» لا يفرد لها قسم بذاتها! إذ هي خليط من تخصصات متنوعة.. فالطب حسبة، والتربية والتعليم حسبة، والشرطة حسبة، والقضاء والقانون والمحاماة حسبة.. والإعلام حسبة.. الخ! ومثل ذلك أيضاً كليات أصول الدين المنتشرة في جامعاتنا، والتي لا تختلف كثيراً عن كليات الشريعة، ومخرجاتها.. فلماذا لا تدمج مع كليات الشريعة، وليصبح التخصص في الدراسات العليا: القرآن وعلومه، السنة، العقيدة، والفقه وأصوله؟ وكذلك الحال لأقسام «الثقافة الإسلامية» في كليات «التربية» في عدد من الجامعات.. والتي لا تختلف مخرجاتها هي الأخرى عن مخرجات «الشريعة» و»أصول الدين».. الأمر الذي يتسبب في إغراق جامعاتنا لسوق العمل بمخرجات تكاد تتطابق.. في الوقت الذي نحن فيه بأمس الحاجة لكلياتٍ وأقسامٍ ومراكز بحثية معنية بـ «القضايا والدراسات المعاصرة». إلى اللقاء.