د. جاسر الحربش
أسْود في مجتمع عنصري أبيض، فائق الذكاء وسط ذهنية مبرمجة على احتكار الذكاء للعرق الأبيض، يكره اسمه في شهادة الميلاد ويعتبره مجرد ملصق عبودية عرقية، يعرف أن ذكاءه لن يمكنه من مغادرة الفقر ويجب عليه استعمال قوته ومهارته البدنية لانتشال نفسه وعائلته من القاع الطبقي. تلك الحقائق حولته إلى مسار آخر وإلى رمز نضالي حقوقي لقومه في أمريكا وللأفارقة وللمضطهدين في العالم كله.
كثيرون من أقران محمد علي كلاي استمعوا إلى الداعية الأسود إيلايجا محمد يحثهم للانتقال من تعاليم إدارة الخد للصفع إلى المقاومة والاحتجاج، وكثيرون استمعوا أيضًا إلى خطب الرمز النضالي الصلب مالكولم إكس الذي اغتالته العنصرية بسبع رصاصات على إحدى منصات الاحتجاج أمام الجماهير. القليلون من أولئك الأقران تجرؤوا على ركوب أخطار البحث عن الكرامة والعدالة واحتمالات الاغتيال، وكان من أهمهم وربما أكثرهم أهمية محمد علي كلاي، عندما تحول من طأطأة الرأس للعواصف إلى مواجهتها بصدر مفتوح على احتمال الاغتيال بالرصاص.
بدأت المحنة الكبرى لمحمد علي كلاي بعد الانتقال من المسيحية إلى الإسلام واختيار الرمزين الأكثر أهمية كاسم جديد له، محمد وعلي. كانت المؤسسة السياسية والعسكرية والإعلامية الأمريكية تعي جيدًا المعنى المضمر في الاختيار وهو المقاومة حتى النهاية. الاسم القديم «كاسيوس» يعني ثوب الكاهن، بما في ذلك من رمزية إلباس ثوب المسيحية لزنجي لا يعترف مجتمعه المسيحي بحقوقه كإنسان. الاسم الجديد، محمد علي، مركب من اسم نبي الإسلام الذي قاوم كل الضغوط في مجتمعه القبلي العنصري، ومن اسم ابن عمه الذي افتداه بنفسه معرضًا نفسه لاحتمال القتل غيلة.
تكثفت الامتحانات الصعبة على محمد علي كلاي بعد انتصاراته الساحقة في الملاكمة على ملاكمين بيض وملاكمين سود يحملون أسماء تقليدية أمريكية، وبعد رفضه الإجابة على ضابط الاستدعاء لخدمة الجيش عندما ناداه باسمه القديم، وازدادت بعد امتناعه عن الذهاب إلى فيتنام للحرب ضد الفيتكونج، لأن هؤلاء حسب قناعته لم ينعتوه بالزنجي ولم يتحدوا كرامته الإنسانية.
حكم عليه بالسجن بتهمة التهرب من الخدمة الوطنية وإهانة المؤسسة العسكرية، وألغي تصريح مهنة الملاكمة مصدر رزقه الوحيد، وتبخرت الأموال الطائلة التي جمعها من انتصاراته السابقة على أجور المحامين وكفالات الخروج من الاحتجاز. أعيد مرة أخرى قسرًا إلى قاع الفقر، مع التلويح له بجزرة العودة إلى المجد إن نقض كل ما فتله وبناه من أمجاد في طريقه النضالي.
في النهاية انتهت حرب فيتنام بهزيمة المؤسسة العسكرية الأمريكية وانتصرت العدالة بشجاعة بعض الحقوقيين البيض والسود لمحمد علي كلاي فرفعت عنه العقوبات وعاد بطلاً متوجًا للملاكمة العالمية ورمزًا للنضال الحقوقي حتى انتقل إلى رحمة الله كريمًا عزيزًا منهكًا بمرض الرعاش.
للتذكير فقط بمحنة مناضل أسود آخر من نفس الحقبة ويستحق كل التقدير، ولكن ليس في أمريكا وإنما في جنوب إفريقيا أيام حكم العنصرية البيضاء. اسم ذلك البطل المناضل «ستيف بيكو» وكان في الصلابة من عود محمد علي ومالكول إكس، لكنه انتهى في زنزانة بيضاء مسحوق الجمجمة ومهشم الأضلاع. كان أهم رموز تحرير جنوب إفريقيا باعتراف نيلسون مانديلا. الفرق بين مصير محمد علي كلاي وستيف بيكو كان في المكان، فأمريكا لها دستور مكتوب منذ الحرب الأهلية الأمريكية لا يفرق نظريًا بين الأعراق، أما دستور جنوب إفريقيا فكان آنذاك مفصلاً بوضوح لخدمة البيض فقط.