عبدالعزيز السماري
تواجه ثقافة التعايش امتحاناً عسيراً في الشرق العربي، فما يجري في بعض المجتمعات العربية أزمة تعايش بكل ما تعنيه الكلمة، فالواقع يتحدث عن صراع من أجل سيطرة إحدى الفئات على الآخرين، بينما تجاهد الفئات الأخرى فكرة تسلُّط طائفة أو فئة على المجتمع.
في علم الاجتماع يُعرف التعايش بقبول رأي وسلوك الآخر القائم على مبدأ الاختلاف، واحترام حرية الآخر، وطرق تفكيره وسلوكه وآرائه السياسية والدينية، فهو وجود مشترك لفئتين مختلفتين وهو يتعارض مع مفهوم التسلط والأحادية والقهر والعنف لأيٍّ منهم للآخر.
والسؤال الذي يفرض نفسه في ظل الأجواء الحالية، هل الحروب الطاحنة ثمن الوصول إلى قبول فكرة التعايش؟، كما حدث في الحرب الأهلية اللبنانية، فقد خرج منها اللبنانيون بخسائر بشرية وعمرانية هائلة، وفي نهاية الأمر رضخ الجميع إلى فكرة التعايش السلمي، وتحولوا بعد ذلك إلى مدافعين عنها، مهما اشتدت حدة الاختلاف بين الطوائف..
فالحرب كما علمتم وذقتم، ليس فيها منتصر، بل جميعهم خاسرون إذا كان الخيار هو الاقتتال على مراكز القوى والسيطرة والثروة، وهذا ما حدث في بعض البلاد التي اختارت أن تتقاتل من أجل فرض واقع ما، فبعد عقود من الدمار وسفك الدماء، لم يكن لهم خيار إلاّ أن يعيشوا ضمن توازنات وقيم مشتركة تحمي مصالح الجميع رغم اختلافهم.
والتساؤل الآخر هل من الممكن أن تنجح فكرة التعايش في مجتمعات متسممة بالأفكار المعلّبة؟، وهل يستطيع الفكر السياسي الإسلامي أن يقدم اجتهاداً في الفقه السياسي، يتجاوز مصطلحات الإقصاء والتهميش كالتبديع والتكفير وغيرهم، لمن لا يستوفون شروط الفرقة الناجية..
ما يجري في الشرق العربي هو إرث قرون من الانشقاق والصراع بين الطوائف المتناحرة، وبين الأقليات والأغلبيات، والتي تختلف من مجتمع إلى آخر، فالأغلبية في بعض المجتمعات العربية دوماً ما تفرض الحقيقة التي تؤمن بها على الجميع.
لهذا السبب ولأسباب أخرى، خرجت أفكار مثل العلمانية والديموقراطية في دول أوروبا، من أجل تجاوز آفة الصراع الدموي على السلطة، لكن الهدف الأكثر تحقيقاً في ظل هذا التحول التاريخي، كان ثقافة التعايش في المجتمع المدني بعد نزع فتيل الأيدولوجيات المتناحرة على السلطة والثروة والحقيقة.
مضمون التعايش أن تشعر أنك مواطن متساوٍ مع الجميع بدون تفرقة حسب اللون أو القبيلة أو الطائفة، وأنّ القيم المشتركة هدفها إعلاء لمبدأ الحياة والعيش المشترك، وتمجيد لهذا الهدف من خلال اقتراب أكثر من الآخر وتبادل المنافع معه، وفي نفس الوقت احترام اختياراته وأسلوبه في إثراء العيش المشترك في المجتمع .
يوجد كمٌّ هائل من الكراهية في المجتمعات العربية الشرقية، فالحدود الجغرافية لا تمثل الوحدة الوجدانية أو المعيشية في الوطن، ولكن ترسمها الهويات المتقاطعة، فالقبلي في دولة ما يشعر بارتباط أكثر بأبناء عمومته من نفس القبيلة في بلاد مجاورة، والأقليات من أبناء الطوائف دوماً تكون في محل الاتهام بالعمالة لدولة أخرى من نفس الطائفة، وهو ما ينسف جذور فلسفة التعايش في الوطن الواحد.
قد يصعب على البعض إدراك هذه الصورة القاتمة عن أجواء التنافر والتضاد التي يعيش فيها الشرق العربي، لكنها في غاية الوضوح لمن استطاع تجاوزها عن وعي وإدراك..
والحل يكون من خلال خيارين لا ثالث لهما، أحدهما أن تدخل هذه المجتمعات في أجواء الصراع والحرب الطويلة، من أجل الوصول إلى قناعة فلسفة التعايش المشترك، أو أن تقوم السلطة العليا بمسؤولية تاريخية في فرض مبادئ التعايش والسلام بين أبناء المجتمع، وذلك بتجريم الذين يحرّضون من خلال الأيدولوجيات الطائفية أو القبلية أو العرقية،، والله ولي التوفيق.