«وجدتها»
تقول :
وجدتها في يوم صحو جميل
وجدتها بعد ضياع طويل
جديدة التربة مخضوضرة
نديانة مزهرة
وجدتها والشمس عبر النخيل
تنثر في الحدائق المعشبة
باقاتها المذهبة
وكان نيسان السخّي المريع
والحب والدفء وشمس الربيع
وجدتها بعد ضياع طويل
غصناً طرياً دائم الاخضرار
تأوى له الأطيار
فيحتويها في حماه الظليل
إن عبرت يوماً به عاصفة
راعدة من حوله راجفة
مال خفيفاً تحتها وانحنى
أمامها ليّنا
وتهدأ الزوبعة القاصفة
ويستوي الغصن كما كانا
مشعشع الأوراق ريّانا
لم تنحطم أعصافه اللدنة
تحت يد الريح
ويمضي كما
كان ، كأن لم تثنه محنة
يضاحك الجمال في كل ما
يراه ، في إشراقه النجمة
في هفة النسمة
في الشمس في الأنداء في الغيمة
وجدتها في يوم صحو جميل
بعد ضياع بعد بحث طويل
بحيرة رائقة ساجية
إن ولغت مرة
في قلبها الصافي ذئاب البشر
أو عبثت فيها رياح القدر
تعكرت فترة
ثم صفت صفاء بلّور
ورجعت مرآة وجه القمر
ومسبح الزرقة والنور
ومستحمّ الأنجم الهادية
وجدتها ، يا عاصفات اعصفي
وقنّعي بالسحب وجه السما
ما شئت ، يا أيام دوري كما
قدّر لي ، مشمسةً ضاحكة
أو جهمة حالكة
فان أنواري لا تنطفئ
وكل ما قد كان من ظل
يمتد مسوداً على عمري
يلفه ليلاً على ليل
مضى ، ثوى في هوّة الأمس
يوم اهتدت نفسي الى نفسي
يعد النص – في نظر اللسانيين المحدثين – وحدة دلالية ، وليست الجملة إلا وسيلة يتحقق بها النص ، وبالتالي فهو يعتمد على مجموعة من الوسائل اللغوية والتعبيرية التي تجعل منه نصاً يتمتع بالوحدة والانسجام والتناغم الذي يفضي – بالتالي – إلى البناء الهرمي ، الذي يصونه (النص) من الفوضى ويحميه من الاضطراب. ومن هذه الوسائل ، أو بالأحرى المعايير النصية التي يصير بها الملفوظُ نصاً .
أولاً : التناص الذي يُظهر التفاعل والتعالق والالتقاء والتداخل (اللفظي أو المعنوي) بين نص ما ونصوص أخرى سبقته أو عاصرته ، بحيث يفيد منها النص المراد دراسته. فالتناص أن يمثل عملية استبدال من نصوص أخرى، أو هو ترحال للنصوص وتداخل نصي في فضاء نص معين تتقاطع وتتنافى ملفوظات عديدة متقطعة من نصوص أخرى.
ولدى تأمل نص فدوى طوقان تتداعى في ذهن المتلقي ، من خلال اللازمة «وجدتها» قصة العالم الرياضي أرخميدس الذي عاش فيما بين عام 287- 212قبل الميلاد . تقول القصة إن ملك سيراكوس شك في أن الصائغ الذي صنع له التاج قد غشه، حيث أدخل في التاج نحاس بدلاً من الذهب الخالص، وطلب من أرخميدس أن يبحث له في هذا الموضوع بدون إتلاف التاج. وعندما كان يغتسل في حمامٍ عام، لاحظ أن منسوب الماء ارتفع عندما انغمس في الماء وأن للماء دفع على جسمه من أسفل إلى أعلى، فخرج في الشارع يجري ويصيح (أوريكا، أوريكا)؛ أي وجدتها وجدتها، لأنه تحقق من أن هذا الاكتشاف سيحل معضلة التاج. وقد تحقق أرخميدس من أن جسده أصبح أخف وزناً عندما نزل في الماء، وأن الانخفاض في وزنه يساوي وزن الماء المزاح الذي أزاحه، وتحقق أيضا من أن حجم الماء المزاح يساوي حجم الجسم المغمور. وعندئذ تيقن من إمكانية أن يعرف مكونات التاج دون أن يتلفه؛ وذلك بغمره في الماء، فحجم الماء المزاح بغمر التاج فيه لا بد أن يساوي نفس حجم الماء المزاح بغمر وزن ذهب خالص مساوٍ لوزن التاج. وكانت النتيجة : أن الصائغ فقد رأسه بسبب هذه النظرية. ووضع ارخميدس قاعدته الشهيرة المسماة قاعدة أرخميدس والتي بني عليها قاعدة الطفو فيما بعد. ، وكذلك أفادت الشاعرة من مقولة ديكارت الفلسفية «أنا أفكر إذن أنا موجود»، وفي السطر الأخير من قصيدتها «يوم اهتدت نفسي إلى نفسي» فقد وظفت الشاعرة قصة أرخميدس ومقولة ديكارت ؛ لتوحي للمتلقي أنها قد عثرت على ذاتها بعد ضياع ، ووجدتها بعد تيه ، استمر ذلك سنين طويلة ، واستغرق صراعا مفعما بالألم والحزن ، ولكنها آلت إلى الفرح المترع بالتحدي والانتصار على المحن والأيام الحالكة.
ثانياً: التماسك النحوي
تتشكل قضية الربط النصي أهم ماتضيء به دراسات نحو النص ؛ إذ تنطلق تصورات نحو النص من الفرض القائل : إن النصوص في الأساس يمكن تحديدها بأنها تكوين بسيط من الجمل تنشأ بينها علاقات تماسك ... ويمكن أن يعد فرض ربط الجمل أساساً لكل البحوث الخاصة بنحو النص ؛ فهي تمثل الإطار لكثير من الدراسات التفصيلية.
وتبحث الدراسات النصية في الوسائل النحوية والمعنوية التي تؤدي إلى تماسك أجزاء النص ، وتقسم إلى قسمين:
- وسائط الربط الوصفي (النحوي).
- ووسائط الربط المفهومي (الدلالي).
وتقسم الأولى في أربعة أقسام:
مطلق الجمع ، التخيير ،والاستدراك ، والتفريع.
ويضاف إلى ذلك:
الترتيب ،والإحالة، والحذف، والروابط الزمنية.
وبالعودة إلى نص طوقان نجد أنها استخدمت حرف العطف «الواو» في غير موقعه مثل : «وجدتها والشمس عبر النخيل – وكان نيسان... – والحب والدفء...».
فالجمع بين وجود الذات وحالة الشمس عبر النخيل ، ونيسان السخي بالحب والدفء وشمس الربيع؛ ماهو إلا تحقق لهذه الذات وتجليها بعد أن كانت في حالة ضياع وقلق. وأما التخيير في قولها: «أو عبثت فيها رياح القدر – أو جهة حالكة ...» فيدل على تحديها لقسوة الزمن والأيام الحالكة ، والانتصار الدؤوب الذي لا يعرف الهزيمة أمام المحن والعقبات . وأما التفريع الذي يشير إلى أن العلاقة بين صورتين من صور المعلومات هي علاقة تدرج ، كما في توظيفها لـ«الفاء العاطفة، ثم، إن الشرطية» ، والفاء في قولها: «فيحتويها في حماه الظليل» ثوحي بأن حالة الفرح التي أعقبت حالة الحلكة والظلام تمتاز بالديمومة والاستمرار ، وإن عكرت صفوها يوماً عاصفةٌ أو زوبعة ؛ لذا جاء توظيفها لأداة الشرط الجازمة «إنْ» ذات الفعلين الماضيين لتفيد أن حالة التعكير حالة عابرة بعد أن وجدت نفسها بعد ضياع الذي استغرق وقتا طويلاً.
** **
- د. طامي دغيليب