عبدالعزيز السماري
يُعَدُّ فن الدعاية وسياسة الكذب فصلاً مهماً في فصول التاريخ الحديث، وقد اتخذ أكثر الأحيان صور مختلفة عن أسلوب الكذب الصريح، فكان الحل في أن يكون التعبير دبلوماسياً، أي يؤطر المضمون بكلمات غامضة، ولا تشير إلى معنى واضح أو إجابة محددة المعالم، لكن أسلوب الكذب والدعاية المزورة كان ملفتاً للنظر في بعض الأنظمة السياسية، وكان أشهرها على الإطلاق نظام الدعاية الإعلامية في ألمانيا النازية.
يُعَدُّ يوزف جوبلز وزير الدعاية النازية ورفيق أدولف هتلر حتى الدقائق الأخيرة من حياته أحد الأساطير في الإعلام الكاذب، وهو صاحب الشعار الشهير «اكذب حتى يصدقك الناس»، واعتمد من خلال الكذب الترويج المستمر لمنهج النازية وتطلعاتها، واستخدم الحرب النفسية لتحطيم الخصوم من الجانب الآخر. وقد أكدت ظاهرة جوبلز هذه أن احتكار وسائل الإعلام قد يملك القول الفصل في الحروب الباردة والساخنة على المدى القصير. لكن آثارها السلبية تكون كارثية نتيجة الإفراط في استخدامها على المدى الطويل، فالمجتمعات تفقد ثقتها في الخطاب المتشنج والأحادي حين يطول، لكن خوفها من البطش من قبل السلطة يدفعها إلى الصمت وعدم التعبير، ولو كان النظام قريباً من حافة الانهيار، وقد كان انهيار برلين فصلاً تاريخياً مهماً في فشل أسلوب الدعاية، فالأحادية ومنهج الترويج الزائف عادة ما ينتهي في صورة مروعة.
كذلك كان محمد سعيد الصحاف وزير الدعاية لصدام حسين، والذي أدار الحرب الإعلامية خلال الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وقد كان إحدى النسخ العربية لجوبلز، مع تقدير الفارق في حجم الإمكانات. فقد أجاد بعض زعماء العرب أداء دور الزعيم العظيم في المنصات، بينما يعاني شعبه تحت الجهل والفقر والتخلف والفساد، لكن خطابهم الإعلامي أو إعلام الدعاية والتطبيل للزعيم تفوق رغم الفارق بين الدعاية والواقع.
كان جمال عبدالناصر والإعلامي أحمد سعيد ثنائياً آخر في فنون الحروب الدعائية واعتماد سياسية الكذب في تاريخنا العربي الحديث، فقد كان سعيد بوقاً للدعاية والدجل لأفكار الزعيم وآرائه في الآخرين، وأجاد أحمد سعيد في فنون الكذب عبر إذاعة صوت العرب عندما نقل بيانات عسكرية منسوبة لمصادر عسكرية تخبر عن انتصار ساحق لمصر وعن إسقاط عشرات الطائرات الإسرائيلية، في الوقت الذي شهدت فيه جميع الجبهات هزيمة ساحقة للجيش المصري من قبل الجيش الإسرائيلي وقصف للطائرات المصرية وهي على الأرض وقبل أن تقلع من المدارج.
كانت هذه الثنائيات تعبر عن حجم الاستبداد السياسي في تلك البلاد، وعن وصول سياسة القمع إلى درجات غير مسبوقة، فقد كان وزراء الدعاية النازية يعبِّرون عن إرادة الزعيم رغماً عنهم، ولا يجرؤ أي منهم أن يحيد عن الخطاب الموجه إليه، فكانوا مجرد أبواق لدعاية إعلامية ممزوجة بالكراهية والتحريض والعنف، وتعبر عن واقع سياسي داخلي مرير، فالقمع وفرض رأي واحد فقط يثير الرعب في نفوس الآخرين.
تلك كانت أحد آفات الاستبداد السياسي في عقود خلت، ومهدت الطريق إلى اجتياح غربي للحضارات المجاورة، فقد أجاد الغرب في فرض مساحة مقننة في التعبير، وحاربوا في بلادهم كل الطرق التي تؤدي إلى النازية أو الأحادية المطلقة، ولهذا قاومت الولايات المتحدة المكارثية التي كادت أن تعصف بأقوى دولة في التاريخ الحديث، فالدول التي تحظى بتعدد الآراء وتنوع العقول واستقلالها النسبي، قادرة أكثر في الاستمرار في خط الحكمة في السياسية.
السلطة العليا قدر لابد منه في المجتمعات البشرية، وضرورة ماسة لحفظ الأمن والوحدة والاستقرار في البلدان، لكن سلوكها في الحالات الثلاث السابق ذكرها خروج سافر عن التقليد الأمثل للسلطة الأعلى، وذلك عندما قرر الزعيم إنزالها إلى الشارع في مهمة تكميم الأفواه وحراسة العقول، فكانت النتيجة صمتاً اختيارياً للجميع في فصل السقوط الأخير.
ختاماً كان شعار جوبلز «اكذب حتى يصدقك الناس» خاطئاً بكل ما تعنيه الكلمة، فقد أثبت خطأه عبر التاريخ مراراً وتكراراً، والصحيح هو أن لا تكذب حتى يصدقك الناس، فالمصداقية في الخطاب السياسي والاقتصادي تحظى دوماً بالاحترام، مهما كانت مختلفة في الرأي أو الرؤية العامة.