د. حسن بن فهد الهويمل
قدري الحميد أنني ولدت في وسط يُؤْمِن بيوم الحساب، وما يحقق النجاة من أهوال (يوم القيامة). حتى لقد كنت أبكي بحرقة في صلوات التهجد, وأنا بعد لم أبلغ الحلم. والإمام يتلو بصوتٍ متهدج:-
{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}.
فَمَا يُتْلى خبر صادق، وحالة ستقع لا محاله، ويوم عصيب سيعيشه الجميع بكل أهواله. إنه مشهد من مشاهد [يوم القيامة]، وكل مشاهدها مخيفة.
في هذا النقاء العقدي، والصفاء التعبدي, الذي رعاه فِيَّ, وَ في لداتي علماءٌ سلفيون يتعهدون أمثالي تربيةً، ويتعهدون (المرجعية) تصفية، وتنقيةً: تصفية الأعمال من شوائب البدع، وتنقية النصوص من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
وحين تدفقت على مدينتي أفواج العلماء من متصوفة، وأشاعرة، وإخوان، واختلطت في [معهد بريدة العلمي] أصوات شتى, ماكنا نَسْمعها من قبل، أحسست أن شيئاً ما سينسف الكثير من المسلَّمات.
علماء أجلاء، يحملون هم التربية، والتعليم. ولكنه تعليم مشوب بدخن المذاهب, والثقافات المتلاطمة.
هذا الفريق المتبحر من أكابر علماء (الأزهر), تبدو عليهم الرزانة، والرصانة، والهيئة، والهيبة، وغزارة العلم، واتساع الثقافة. بحيث تشكل تلك الصفات هالة أخاذة, تفرض علينا الاحترام، والاستسلام.
وقدري الأحمد أن لـ(لمعهد) بهذه الأهلية الدعوية المستحوذة مُعادِلاً قَوياً، يتمثل بحلقات الدروس التقليدية, التي يعقدها في [جامع بريدة]، وفي [المكتبة العامة] العلامة [الكارزمية] [عبدالله بن محمد بن حميد] رحمه الله.
وكنت من المريدين له، المتابعين لدروسه، المبهورين برجاحة عقله، وغزارة علمه، مع صغر في السن، وضآلة في الهيئة، وعقدة حياء في اللسان.
وفيما بين [المعهد]، و[الجامع] يرتفع صوت لجوج, يُقَلِّبُ لمستمعيه الأمور. ويعد ويمني، إنه [صوت العرب]، وبخاصة ما يقدمه يوم ( الجمعة )، تحت عنوان [بصراحة]، وهو المقال الافتتاحي لرئيس تحرير [جريدة الأهرام] محمد حسنين هيكل.
مقالٌ يُحَرِّض على الانقلاب، ويهز الثقة, والولاء، ويشكك في قادة البلاد.
هذه المصادر الثلاثة تتنازعني, حتى لكأني في:-
[مَلاعِب جُنَّةٍ لو سَارَ فِيها … سُليمانٌ لسارَ بترجُمان]
وشَابٌ مثلي, غَضُّ الإهاب، ضعيف الجنابَ, سيكون فريسة لتلك الخطابات, لولا لطف الله.
(علماء الأزهر) المتبحرون, قَدِمُوا على (علماء السلف) الملتزمين, الذين لا يبرحون ظلال الوحيين.
كان الصراع فيما بينهم خافتًا، والاحترام المتبادل يكظم الغيظ، ونحن بين هؤلاء, وأولئك كريشة في مهب الريح.
إنه زمن المخاضات، والخيارات، واضطراب التصورات, ومفترق الطرقات.
لقد كنت جسوراً في خوض لجج المعارف، وكنت حَفياً بهؤلاء, وأولئك. وكل استاذ يظن أني معه قلباً، وقالبًا.
ولقد أشرت في (سيرتي الحبيسة) إلى ذلك الشيخ [الحضرمي] الذي لقيته في [المكتبة العامة] ينقب عن كتب (الملل)، و(النحل)، و(الفلسفة), و(الاختلاف) في الأصول، والفرع، وذكرت استلطافه لي، وحرصه على زجي في تلك الدوامة الفكرية, التي لم آلفها من قبل.
لقد قال لي:- لكي تكون شيئاً مذكوراً, ابحث عمن يختلف معك. وإياك أن تسلم نفسك لأحد. إن حرية الفكر هي الطريق القاصد للتألق, والتفوق, والتعمق.
وفي لجة التجاذبات يلوح لي ذلك الشيخ [الحضرمي] بحبوته، وسمرته، ونحافته، وصلعته, وهو يقول:- [إياك أن تسلِّم نفسك لأحد].
وكلما هممت بالتسليم سمعت هاتفاً يترنم بذلك التحذير, فَأفِرُّ من الارتهان، فراري من الأسد.
مالا أزايد عليه ( سلفيتي ) بمفهومها الشخصي، لا التبعي. سلفيتي التي أصنعها على عيني, ولنفسي، ولا أرضى أن أكون تَابعاً، ولا متبوعاً. فلكل مجتهد نتائج اجتهاده، وكل نفس تأتي يوم القيامة تجادل عن نفسها.
(سلفيتي) ليست مذهباً, لأنها تذوب في تجاويف الإسلام الذي سماني الله به: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا}. (وَمَنْ قَصَدَ البَحْرَ استقلَّ السواقيا).
ذلك هاجسي الذي يحمي من الانتماءات، والمسميات التي تختصر الإسلام، وتحتكر الأفضلية، وتعطل التفكير، وتصادر حق الاجتهاد.
دعاة الحزبية، والطائفية, واللاعبون بالعقول, ينساب أثرهم كالخدر. وتتلاحق ضرباتهم الصوتية لتحيل المتلقي إلى دمية تفقد سيطرتها على نفسها. وتجعل الأتباع صمًّا, بكماً, عمياً.
وإن تَعْجب, فَعَجَبٌ تحرك الخلايا النائمة في أعقاب رسالتي لـ(الشيخ تميم) مُعْلِنَةً الرفض لكل صوت حر, يَعِفُ عن النَّوَالِ، ويُغَلِّبُ الافتراس. وكأن [المتنبي] عناهم بقوله:- [مُفَتَّحَةٌ عُيُوُنُهُمُ نِيَامُ].
لا استطيع الحوار المتكافئ إلا مع إنسان يتعالى على [البرمجة] ويرفض التبعية، والقابلية للانسياق خلف [الولي]، أو[المرشد]، أو[الشيخ] المعمم. ويبحث عن النجاة، ولا يعنيه عند من يكون الحق, أوالانتصار, ويُصِيخ للأمر (عليكم بسنتي ...).
المستسلمُ الخَنُوعُ المخدوع من يَرْضى بالطوق في رقبته، والقيد في مِعْصَمِه. وكلُّ مذعن لمذهب، أو حزب، أو طائفة بائعٌ نفسه فموبقها.
حرية الفكر أهم من حرية الجسد. وكم من مُهَمَّشٍ في الظل, يتمتع بسعادة لا تعدلها سعادة التبعي الببغائي.
الأحداث الجسام حين تجتاح الوطن, تكشف عوار من عميت أبصارهم، وبصائرهم:- {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
دول، وأحزاب، ومنظمات تريد أن تنتزع مِنَّا الأمن، والاستقرار، ورغد العيش، وحرية العبادة، وصفاء العقيدة. ثم يظل المرتابون معها في أمر مريج.
لا شيء أثمن من استقلال الرأي، وحرية الفكر، والاستقبال بندية, وحرية، وإشباع النهم المعرفي في التسوق الحر في مضان المعرفة، والفكر.
العلماء من يستشرفون المستقبل, متوسلين بالمعارف، والمقاصد، والتصورات.
والنبلاء من يرفضون التلقين الببغائي :- [لا تعطني سمكة، ولكن علّمني كيف أصيدها]. والشرفاء من يرفضون النوال, ويستسيغون الافتراس.
مقتدين بالصحابي الجليل [عبدالرحمن بن عوف] الذي قال للأنصاري:-
[بارك الله لك في مالك، وأهلك، دلوني على السوق].
من الكتب الجميلة التي حَرَّكت الاستقلالية في أعماقي كُتَيِّبٌ للمفكر [مصطفى محمود]، [لماذا رفضت الماركسية]. لقد انتمى للحزب، ثم فر منه هارباً، وأجهده الانتقال من (الشك) إلى (اليقين).
ومثله كتاب [ومشيناها خطى] لـ[أحمد سليمان المحامي] الذي استحوذت عليه الدعاية الشيوعية, كملايين البشر الذين خدعهم الزيف، واستجرهم السراب. ومئات العباقرة الذين أضاعوا الجهد، والوقت، والمال، ثم ادَّكروا بعد أمة.
ومن قبل أولئك الصحابي الجليل [سلمان الفارسي]، الباحث عن الحقيقة, حتى وجدها عند الرحمة المهداة, والنعمة المسداة.