ما إنْ نَفضَتْ نجْدُ يَدَها مِن دفنِ عَلَميْن مِن كِبارِ أعلامِها (الشيخ الفقيه د. صالح السدلان، والشيخ الفقيه د. سليمان العيسى) حتى عاجلتها الأخبارُ بعدَ أيّامٍ، وجَرَت الأقدارُ بانطفاءِ قِنديلٍ ثالثٍ مِن قناديلها، وبدرٍ مِن بُدورِها؛ لطالما تلألأَ في سمائها= وهو شيخُنا العلامةُ الفقيه، الدَّاعي الذَّكَّار، المُحقِّق الأديبُ، الإذاعيُّ الخطيب، السَّلفيُّ الأثري د. محمد بن لُطفي الصَّبَّاغ الدِّمشقي المَيداني، نزيلُ الدِّيار النَّجدية.
الذي قَضى نحبَه فجرَ الجمعة المُبارك، (7 صفر 1439هـ) في إحدى مشافي الرِّياض.
ولَئِنْ كانَ مِن عادتي أن أمتشقَ قلمي في مَيدان رثاءِ أشياخي وتَعداد مناقبهم وجليل مآثرهم؛ أداءً لبعضِ حقِّهم. إنني اليومَ مُنعقدُ البَنانِ، وَجِلُ الجَنان؛ لفَقْدِ شيخِنا وشيخِ أجيالٍ بأكملِها، ولا أدري حقًّا مِن أينَ أبدأ وأينَ أنتهي!
اللهُ أكبرُ فالمُصـابُ تَنَاهى
والدِّينُ ثُلْمَتـهُ استطارَ عَنَاهَا
شملَ البلاءُ العالمينَ فلا ترى
نفْسًا ولم تكُ زُعزِت أحْشاهَا
فاليومَ مات (المورِدُ) العَلَمُ الذي
لدلائلِ التحقيق شادَ بِنَاها!
كانَ شيخُنا - لعَمْرُ الله - مَجْمعَ الفضائل، ومُلتقى الأكابر والأماثل، وريحانةً مِن رياحين الشَّام، وعالمًا مِن أجلِّ عُلمائها، متميزا حاذِقا في غيرِ جانبٍ من جوانب العِلم؛ تجدُهُ في الحديثِ ورجاله عالمًا محدِّثا، وفي العربيَّة أديبًا ذوَّاقةً، وعن سياج الشريعة مُنافحًا؛ فإذا قرأتَ له أَسَرَتْك رشاقةُ حَرفِه في بنانه، ولمستَ صدقَ نُصحِه في لسانه، وإذا سمعتَ له طَرِبْتَ لفصاحةِ لسانه، وجزالةِ بيانه، وفخامة صوتِه، وإذا أردتَّه في ميادين الدَّعوة والتعليم وجدتَه فارسًا مِن الفُرسان، وإذا سألتَ عن مجالات التَّربيةِ والإصلاح كانَ المُربِّيَ والمُصلح، داريًا بواجبِ زَمانه، عارفًا بأحوال أُمِّتِه؛ فكأنّه لم يترك مجالًا فيه خيرٌ ونفعٌ للنَّاس إلا طَرَقَه، ولا مُبالغةَ في قول: أنَّه مِن أوائل مَن ولَجَ الإعلامَ المُعاصر داعيًا ومُعلمًّا، تشهدُ له برامجُه الدِّينية في الإذاعات السعوديَّة مِن أربعينَ سنةً، وتُدلل كذلك حَلْقاته الماتعة على الفضائيات المرئية!
وأمامَ نشاطه الدَّعوي والعلمي لم يُغفِل أبدًا التعليم الأكاديمي؛ فقدَ نهضَ لمهمَّة التدريس، أستاذًا لعلوم القرآن والحديث بكلية التربية بجامعة الملك سعود لأكثر من ثلاثة عقود! ورَقِيَ للإشراف ومناقشة الرسائل العلمية العالية! وشارك في لجان الاختيار لجائزة الملك فيصل العالمية مرات عديدة، وكان عضوًا في لجنة جائزة مكتب التربية العربي لدول الخليج - التي طبعت أول ما طبعت كتب الشيخ ناصر الدين الألباني -، شارك في التوعية الإسلامية في الحج سنواتٍ عدة؛ فعمَّ عِطرُه، وفاحَ شذاه.
فأيُّ رُزءٍ أُصبْنا به!
إلى اللَّه أَشكُو أَسًى
عَرَانِي كوَقْعِ الأَسَلْ!
علَى رَجُلٍ أَرْوَعٍ يُرَى
فيهِ فَضْلُ الوَجَلْ
شهَابٌ خَبَا وَقْدُهُ
وعَارِضُ غَيْثٍ أَفَلْ
نجَلته دمشقُ سنةَ (1348هـ) وَفق (1930م)، وبها نشأ، فتفقَّه بها، وانتفع بأعلامها: كالشيخ الفقيه محمَّد صالح العقاد، والعلامة عبد الوهاب دبس وزيت، وابنيْ عمِّه العلَّامتين محمد خيرو ياسين وسعدي ياسين، والعلامة حسن حبنَّكة، والعلامة محمَّد بهجة البَيْطَار، والعلامة زين العابدين التونسي - شقيقُ شيخ الأزهر محمد الخضر حسين - ، والعلامة محمَّد بدر الدين أبو السَّمح - شقيق العالِميْن عبد الظاهر، وعبد المهيمن أبو السَّمح - ، والشيخ الأديب عليّ الطّنطاويّ، والشيخ المُحدِّث ناصر الدِّين الألباني، والشيخ سليم اللبَني - قرأ عليه القُرآن مرَّتين - وغيرهم.
وكان في طلبِه ذكيًّا ألمعيًا، مشتهرًا بصلاحه وتقواه، أثنى عليه شيُوخه وقدَّموه؛ كالشيخ البيطار، الذي كان يُنيبُه في خطبة الجمعة في جامع الدَّقاق الشهير، فلمَّا أورقَ عُودُه وأثمرَ يَنعُه= انطلقَ في الدَّعوةِ إلى الله مفعمًا نشاطًا وحيويَّةً، يُؤرّخ ذلك الشيخُ بديع موسى الدِّمشقي رحمه الله، ويصف هذه الحِقبة في رسالةٍ أرسلها مِن (درعا) قضاء حَوران إلى الشيخ زُهير الشاويش في لُبنان:
«الحمدُ لله رب العالمين، فقدْ عوَّضنا اللهُ تعالى عمَّا كُنَّا فيه مِن نشاطٍ دعويٍّ في (المَيْدان) بقُدومِ شابٍّ يافعٍ واسعِ الثقافة، غزير العِلم، يفيضُ نشاطًا وحيويَّة، وإخلاصًا في الدعوةِ إلى الله عزّ وجلَّ بالحكمة والموعظة الحسنة، اسمُه: محمَّد الصَّباغ؛ فنحمدُ اللهَ أنَّ شرَّفنا بصُحبته»( ).
* شهادةُ عارِف:
ولعلي لا أجدُ وصفًا أصدق ممّا قاله في حقِّه شيخُه علي الطنطاوي: «إنه أحدُ الفرسان الثلاثة الذين عرفتهم تلاميذَ صغارا، وأراهُم اليوم ويراهم الناس أساتذةً كبارًا.. معروفٌ بفضله الذي يبدو في آثارِ قلمه، وفي بَيانه الذي يظهر دائمًا على لسانه، وفي علمه الذي يشهَدُ به عارفوه، ويستفيدُ منه تلاميذُه، فهو رجلٌ قد جمع سَعَةَ الاطِّلاع، وجَودَة الإلقاء، وسَلامَةَ اللغة، والبُعدَ عن اللَّحْن، وهو مُحدِّث موفَّق في الإذاعة والرائي، ومُدرِّس ناجحٌ في الجامعة وفي الجامع، ظاهرُ المكان، مُتميِّز الرَّأي في النَّدوات الإسلامية، عاملٌ دائبٌ في حَقل الدعوة إلى الله، قادرٌ على توضيح المسائل وتقريبها إلى الشبَّان، وهو سَليمُ العَقيدة، سَلفيُّ المشرَب..».
وفي عام (1382هـ) سافرَ إلى الرياض؛ فحلَّ ضيفًا كريمًا - وكانَ مِن أوائل مَن استُقدِم إليها من مشايخ الشام - فلازمَ العلامة عبد الرَّزاق عفيفي، وحضرَ دروس العلامة الجليل محمَّد بن إبراهيم، وغيرهما، وأجازَ له شيخُ الحنابلة ابن عقيل وتدبَّجَ معه، رحمةُ الله عليهم أجمعين.
وكانت له صداقةٌ حميمةٌ مع أعلام عصره، كعلامة المغرب ورحَّالتها د. محمَّد تقي الدِّين الهلالي، وهنا نفتحُ قوسًا ثمَّ نغلقه! (فلقدْ حدَّثني شيخُنا مشهور آل سلمان أنَّه زار الفقيدَ في نُزُله في عمَّان بمنطقة (الشميساني) قبل نحوِ سبع سنوات فأملى عليه مِن أخبار التقي الهلالي المُطرِبَ المدهش، وكانت هذه المقابلة رافدًا في ترجمة الهلالي التي كتبها الشيخ مشهور من خلال المقالات التي كتبت عنه، واللقاءات التي أجراها مع تلاميذه).
بل امتدَّت وشائج المحبة مع كُلِّ مَن نزل الشَّام مِن الأعلام، إذْ يقولُ عن نفسِه: «وكانت هذه عادةً لي، لا أعلم أنَّ عالمًا جاء إلى بلدي إلا سارعتُ إلى زيارتِه ودعوَتِه، وقد تعرَّفت على عددٍ من الأعْلام الأجلاء الذين جاؤوا إلى دمشق».
ولم يزل شيخنا - حتى دَنت شمسُه المُشرِقةُ إلى الغُروب - يُفيدُ ويستفيدُ، ويُبدي ويُعيدُ، معروفًا بالتؤدة، ولين الجانب، ولطُلابه بلغةَ السَّاغب، وبُغية الراغب.
ولن أقف كثيرًا مع تُراثه، فهو أشهرُ مِن أن يُشهر، لا سيّما أطروحته العلمية: «التصوير الفني في الحديث النبوي»، نال بها الدكتوراه، ولعلها أول وأقوى أُطروحةٍ تحدَّثت عن البلاغة في الحديث النبوي، وكتابه الآخر: «الحديث النبوي: مصطلحاته، بلاغته، كُتبه» الذي نظرَ فيه وعلَّق عليه العلامة المُحدث الألباني رحمه الله( )، غيرَ أنّي أنوّه بآخرِ ما نشرَ شيخُنا، وهما كتابان ختمَ بهما حياته العلميَّة:
«مخطوطات إسلاميَّة بيد اليهود»، و»الأربعون في فضائل الأعمال» صدَرَا قبلَ وفاته بأشهر!
وكأنَّه يُريد التنبيه على عظيمين: قضيةُ فلسطين، وأنّها أمانةٌ في عُنق المُسلمين، فكمَا ضاعت فلسطين لضياع الأمانة وتقصير المُسلمين، ضاعت مخطوطاتها!
الثاني: العنايةُ بالأعمال الصالحة، خاصة في أزمنتنا هذه التي انتشرت فيها المُليهات عن الطاعات، والمُحفِّزات للمعاصي والمُنكرات!
* تشرُّفي بزيارته في بيته بالريِّاض، ونصيحتُه ووصيتُه إليَّ:
قبل ما ينوفُ على العَشْرِ سنوات رأيتُ شيخنا على قناة المجد في برنامج : صفحاتٌ مِن حياتي، وكنت أولّ مرة أُطالع صفحةَ وجهه المنور، وشدَّني حديثه الشائق عن شيخه العلامة الألباني، وأيَّام دِمشق، وذِكرياتها!
ثمَّ دارت عجلةُ السنوات، فضحِكَت لنا، فيسَّر الله العُمرة، والذهاب للرياض للمرَّة الأُولى لحضور «مجالس سماع السُّنن الأربعة»، وزيارة العُلماء؛ فشرُفتُ بزيارته (15 شعبان 1435هـ) صحبةَ أخي الحبيب رَبيب العُلماء الأستاذ أيمن ذو الغِنى؛ فما إنْ دخلنا منزله حتَّى طالعنا الشيخُ، أنور الوجه، سمح الطَّلَّة، بهيّ المُحيّا، مرآه يبعثُ على الطمأنينة، وبعدَ أن أعلمتُه أني مِن غزَّة طلبتُ نصيحتَه ووصيته لي - كعادتي في زيارة العُلماء بفضل الله - فنصحَ وأوصى وبرَّ، جزاه الله عنِّي خيرًا ورحمَه، وكانَ ممَّا قالَه لي مرتجلاً:
«الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه:
يا أخي الكريم:
أوَّلُ ما أُوصي به طلبة العلم، والدُّعاة إلى الله، أُوصيهم بتقوى الله.
وأُوصيهم بالاستفادة من الوقت؛ ما ينبغي أن تضيعَ ذرَّة من الوقت دُون أن يستفيد في أمرٍ مِن أُمور الدُّنيا أو الآخرة.
الدُّنيا تُعينُ على الآخرة، لمَّا يستعينُ الإنسانُ بالدُّنيا تُعينُه على الآخرة، إن كانت هذه الدُّنيا طلبًا للرزق، أو طلبًا للعلم، أو خدمةً للمُسلمين، على كل حال ما ينبغي أن تمُر لحظة دون أن يستفيدَ منها المسلم لدينه ودُنياه، هذه واحدة.
الأمرُ الآخَر: أنا أُوصي إخواني باختيار الصدِيق الذي يُعينُه، ويدُلُّه على الله، وإذا فَتَرت عزيمتُه يُنشِّطُه، ويُذكِّرُه بوُعودِ الله.
الأمرُ الثَّالث: إيَّاكم واليأسَ والإحباط، اللهُ تبارك وتعالى وعدُه صادق لا يتخلَّف، اللهُ وعَدَ أن يُظهرَ هذا الدِّين، حتى يبلغَ كُلَّ مكانٍ في هذه الأرض، هذا شيءٌ لا بُدَّ أن يتحقَّق؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وعدُه لا يتخلَّف، وضَعَ ربِّي - عزَّ وجلَّ - شروطًا لتحقُّقِ هذا الوعد: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور: 55).
هذا وعدٌ، لا بُدَّ أن يتحقَّق؛ إيمانُنَا بهذا ثابتٌ كإيمانِنَا بوُجودِنا؛ ولذلك لا ينبغي أن يتسرَّبَ إلى قُلوبِنا اليأسُ، أو الإحباطُ! لا؛ الليلُ لمَّا يشتدُّ ظلامُه يأتي الفجر.
ثمَّ بعدَ ذلك - أخي - الوصية التي أُوصي بها إخواني: أن يطلبُوا العِلمَ، وأن يُبلِّغوا الناس ما عَلِموا، يقولُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البُخاريُّ وغيرُه -: «بلِّغُوا عنِّي ولو آية».
ما بتعرف غير آية بلِّغْهَا، ولا يفتُروا عن الدَّعوةِ إلى الله - عزَّ وجل - ، وينبغي أن يسلُكوا المَسلكَ المُجدِي: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل: 125).
... نسألُ اللهَ - تعالى - أن يُوفِّقنا لمرضاته، ويجعل خيرَ أعمالنا خواتيمها، وأن يجعلَ خيرَ أيَّامِنا يومَ لقاه. والحمدُ لله ربِّ العالمين «( ).
كانت في حياتِك لي عظاتٌ
فأنتَ اليومَ أوعظُ منك حيّا
فاللهمَّ يا ذا الجلالِ والإكرام كما نَسأْتَ في أثرِه في الإسلامِ، وقبضته في يومٍ يُرجى فيه حُسن الختام؛ فأحسن وفادته عليك، وأكرِم نُزله وأعلِ منزلتِه لديك.
وصلى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِه وصحبته والتَّابعين.
** **
محمود بن محمد حمدان - غزة - فلسطين