أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لا ريب أن الجمال على إطلاقه: بصفته إدراكا عقليا، وبصفته إحساسا قلبيا لا تعليل له إلا بوجوده في القلب الذي هو مقر كل الانفعالات النفسية، وبصفته أيضا لذة تشتهيها أعضاء الجسم كله ابتداء بالقلب نفسه، وانتهاء بأعضاء الجسد الملموسة باليد كلذة لمس يد الحسناء من قبل الرجل، أو لمس يد الرجل الجميل من قبل المرأة كما في دفلجة الست: (هات إيديك ترتاح للمستهم إيديا)؛ ولهذا كان تحريم الشرع المطهر لمس يد غير الزوجة أو ما ملكت اليمين؛ ومثل ذلك النظر بالعين إلى ما يفتن الرجل من جمال الحسناء، أو يفتن المرأة من جمال الرجل كما في دفلجة الست: (هات عينيك تسرح في دنيتهم يديا)؛ ولهذا كان التعريف بالجمال؛ وهو العسير على كل الدراسات الجمالية إلى هذا اليوم: موصوفا بأنه (السهل الممتنع)؛ لأنه ظاهرة وجودية يدركها الحس، وتشتهيها النفس قلبا (أي الإحساس بالجمال)، وتشتهيها ممارسة؛ أي بلمس اليد، ونظر العين، وبما أستحيي من ذكره من أمور الباءة.
قال أبو عبدالرحمن: إذن الجمال بإطلاقه الذي أسلفته آنفا: كان هو المعضلة الكبرى في الدراسات الجمالية التي تطمح إلى تعريف بالجمال تعريفا جامعا مانعا منذ الفلسفات القديمة عند مثل أفلاطون.. إلى الدراسات في تاريخ العرب والمسلمين منذ إشراق نور الإسلام.. إلى فلسفات العصور الوسطى التي هي فلاح دنيوي لدى الغرب (بالغين المعجمة)، وتقهقر دنيوي لدى العرب والمسلمين، وضعف حس ديني عند أكثر ذو القلم منهم.. وكان الجمال بإطلاقه الذي أسلفته آنفا أيضا: سهل التعريف غير ممتنع عند قلة من العرب والمسلمين من أمثال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى، وأبي حامد الغزالي عفا الله عنه.. ومع جمال وجلال وإمتاع كتاب (طوق الحمامة) للإمام ابن حزم: فلا غناء عما في دراسات ابن حزم الجمالية الأخرى في عدد من كتبه؛ وأخص بالذكر الآن كتابه (مداواة النفوس) ص 51 - 52 ط دار الآفاق الجديدة ببيروت/ طبعتهم الثالثة عام 1400 هـ.. قال رحمه الله: ((المحبة كلها جنس واحد؛ ورسمها: أنها الرغبة في المحبوب، وكراهة منافرته، والرغبة في المقارضة منه بالمحبة؛ وإنما قدر الناس أنها تختلف من أجل اختلاف الأغراض فيها؛ وإنما اختلفت الأغراض من أجل اختلاف الأطماع وتزايدها، وضعفها أو انحسامها؛ فتكون المحبة لله عز وجل وفيه، وللاتفاق على بعض المطالب، وللأب والابن والقرابة والصديق، وللسلطان، ولذات الفراش [يعني أبو محمد ذات الفراش التي أباح الله وصالها.. قال أبو عبدالرحمن: ويكون لغير ذات الفراش التي حرم الله وصالها]، ثم قال أبو محمد: ((وللمحسن [أي إلى الناس بما له أو جاهه] وللمأمول، وللمعشوق؛ فهذا كله جنس واحد اختلفت أنواعه كما وصفت لك على قدر الطمع فيما ينال من المحبوب[أي ما يطمع في نيله]؛ فلذلك اختلفت وجوه المحبة.. وقد رأينا من مات أسفا على ولده كما يموت العاشق أسفا على معشوقه، وبلغنا عمن شهق من خوف الله تعالى ومحبته فمات.. ونجد المرأ يغار على سلطانه وعلى صديقه كما يغار على ذات فراشه، وكما يغار العاشق على معشوقه؛ فأدنى أطماع المحبة ممن تحب: الحظوة منه، والرفعة لديه، والزلفة عنده إذا لم تطمع في أكثر؛ وهذه غاية أطماع المحبين لله عز وجل؛ ثم يزيد الطمع في المجالسة، ثم في المحادثة والموازرة؛ وهذه أطماع المرإ في سلطانه وصديقه، وذوي رحمه.. وأقصى أطماع المحب ممن يحب: المخالطة بالأعضاء إذا رجا ذلك؛ ولذلك تجد المحب المفرط المحبة [الأنسب للسياق، والصح (في المحبة)؛ لأن مفرط المحبة هو من لا حب عنده] في ذات فراشه: يرغب في جماعها على هيئات شتى، وفي أماكن مختلفة؛ ليستكثر من الاتصال [يعني تداخل كل الأعضاء]، ويدخل في هذا الباب الملامسة بالجسد، والتقبيل.. وقد يقع بعض هذا الطمع في الأب في ولده؛ فيتعدى إلى التقبيل والتعنيق [قال أبو عبدالرحمن: لعله يريد المعانقة]؛ وكل ما ذكرنا إنما هو على قدر الطمع؛ فإذا انحسم الطمع عن شيء ما لبعض الأسباب الموجبة له: مالت النفس إلى ما تطمع فيه)).
قال أبو عبدالرحمن: أشهد أن أبا محمد رحمه الله تعالى في أكثر بحوثه قد سبق زمانه بقرون.. كما أشهد أن له بحوثا لا تليق بخيالات الأطفال؛ وذلك دلالة على أن العصمة لله ثم للأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه وبركاته في تبليغهم شرع الله، وفي فهمهم إياه على مراد الله، كما أن اجتهادهم إذا لم يوافق مراد الله يأتي تصحيحه وتبليغه سريعا من الله بواسطة الوحي.. ولو وجد الكمال في غيرهم: لكانوا بحاجة سريعة إلى عيب يوقيهم من العين القاتلة.. وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.