محمد عبد الرزاق القشعمي
أول مدني يحصل على شهادة العالمية من الأزهر .. أول معتمد للمعارف بالمدينة
***
ما فتئ الصديق يعرب خياط يحدثني في كثير من المناسبات عن جده لأمه محمد دفتردار، ويعدد مناقبه ومزاياه وما تعرض له في مسيرته في الحياة منذ تهجيره مع غيره من المدينة المنورة إلى الشام (سفر برلك) أيام حصار المدينة - أثناء الحرب العالمية الأولى - ودراسته هناك ثم انتقاله إلى بيروت للدراسة والعمل ثم التحاقه بالجامع الأزهر وحصوله على الشهادة العالمية وعودته للمملكة ليعمل معتمداً للمعارف بالمدينة ومؤسساً لأول مدرسة ثانوية بها - مدرسة طيبة - من عام 1362هـ، إضافة لاهتمامه بالأدب والتاريخ.
كل هذا شجعني على البحث في مظان الكتب والمراجع المعنية بمثله، خصوصاً وقد وجدت اهتمام الدكتور علي جواد الطاهر به وإفراد صفحتين له في (معجم المطبوعات العربية)، وكذا خير الدين الزركلي الذي كتب عنه في (الأعلام) باستفاضة، فطلبت المزيد من المراجع، وبالصدفة وجد الصديق يعرب خياط كتاباً عن جده الدفتردار سبق أن أصدره النادي الأدبي بالمدينة عام 1424هـ وهو (محمد سعيد دفتردار... مؤرخاً.. وأديباً) للدكتور محمد العيد الخطراوي، فأهداه لي مما زاد من رغبتي في الكتابة عنه ولو بإيجاز.
وصفه الخطراوي قائلاً: «وهو شخصية زكت عرقاً، وطابت عِلْقاً، وزهت عِذْقاً، وأغدقت بالعطاء والنماء غَدْقاً، وأثمرت خيراً وصدقاً، كان - رحمه الله - رجلاً حلو المعشر، طيب القلب، صادق المظهر والمخبر، سليم الطوية، نقي السريرة، يحب في الله ويبغض في الله، ويقدر أهل العلم والخير، لا يفرق في ذلك بين قريب وبعيد، ولا بين غني وفقير، أو كبير وصغير، فالرباط الذي يربطك به إنما هو مقدار ما لديك من علم ومعرفة.. أقول هذا وقد زاملته وأنا في ذروة شبابي مدرساً بمدرسة طيبة الثانوية بالمدينة المنورة، وكنا أهل تخصص واحد فما كنت أحس معه بفارق السن، ولا بتطاول في علمه، أو كبرياء في القول أو العمل، بل كان يمسك بزمام المبادرة في كل مناسبة علمية أو أخوية، حتى لظننت أنه تربي، أو من لداتي..!» ()
وقال إنه زامله في أسرة (الوادي المبارك الأدبية) والتي كان أعضاؤها يجتمعون في بيته أو بيوت الأعضاء عبدالعزيز الربيع وعبدالرحمن الشبل وحسن صيرفي. وقال إنه أول معتمد للمعارف بالمدينة وأول من ألف الكتب المدرسية، وهو من أوائل من حملوا شهادة جامعية من خارج المملكة، وهو الأديب الذي شارك بقلمه في تغذية الصحف شعراً ونثراً. وهو القاص، وهو الشاعر، وهو المؤرخ، وهو الباحث.()
ولد محمد سعيد بن يحيى دفتردار بالمدينة المنورة في العاشر من ذي القعدة سنة 1322هـ/ 1904م من أسرة عريقة في المدينة، فقد استوطن جدها الأعلى (العلامة علي أفندي ابن عبدالرحمن الرومي) - أي التركي - في حدود سنة 1140هـ وكان عالماً جليلاً حصل أكثر علومه على علماء المسجد النبوي، وكان صاحب ثروة، وثروته امتداد لثراء أسرته النازحة من البلقان وتحديداً من البانيا، حيث كان جده يشغل المناصب الكبيرة في الدولة العثمانية منها منصب الدفتردار - أي صاحب السجل - ومن هنا ظلت الأسرة تحمل هذا اللقب.
كما تولى جده يحيى الخطابة والإمامة في المسجد النبوي الشريف.
دخل محمد سعيد كُتاب (السُنْبُلِّية) أول عهده بالتعليم، وفيه حفظ القرآن الكريم، وصلى بالقرآن التراويح في المسجد النبوي حفظاً، وهو في الحادية عشرة من عمره، وذلك عام 1333هـ. وأثناء الحرب العالمية الأولى أبعد مع غيره من المدينة إلى الشام ما بين عامي 1334-1337هـ وكان مع جده يحيى في قونية، انتقلوا بعد ذلك إلى دمشق ليلتحق بمدرسة الصنائع، انتقل مع شقيقيه هاشم وعلي - بعد وفاة والدتهم زليخة بنت الشيخ إبراهيم اسكوبي - إلى بيروت ليدرس في النهار ويعمل مع أخويه في مهنة القطانة (نداف)، ويعمل في الليل حارساً للبضائع التجارية في ميناء بيروت، وتعرفوا على مفتي لبنان الذي كان يعرف والدهم ويسكن في منزله أثناء زيارته للمدينة فرحب بهم وعرض عليهم أن يبعثهم للدراسة في الجامع الأزهر بالقاهرة.
وافق شقيقه الأصغر هاشم على الذهاب للدراسة بالأزهر، وعند عودته في العام التالي إلى بيروت ومعه بعض المقررات الدراسية، ومنها كتاب (المعلقات السبع للزوزني) والذي استعاره منه أخوه محمد ليقرأه ليلاً وهو في مهنة الحراسة بالميناء، وعندما رغب أخوه بالعودة إلى القاهرة سأله عن الكتاب فأخبره أنه أبقاه في موقعه بالميناء، فسأله أخوه: هل قرأته؟ قال: بل حفظته مع شروحاته، فقال له هاشم: يا أخي أنت ليس مكانك هنا فتعال معي إلى الأزهر عسى أن تقبل وتدرس معي فوافق، وهكذا قبل بالأزهر وألحق بالصف الثاني - بعد اختباره في (ألفية ابن مالك) وكتاب المعلقات - وكان يصرف له نصف جنيه في الشهر وهذا لا يكفيه، ففكر بالعمل ليحسن وضعه المادي وفعلاً ذهب إلى إحدى المطابع وعرض خدماته لمراجعة مصفوفة الكتب من الأخطاء اللغوية، وفعلاً اتفق معه على أجرة (مليم) واحد للصفحة الواحدة، فكان محمد يدقق خمسين صفحة ليحصل على نصف جنيه يومياً. مع مواصلة دراسته في اللغة العربية؛ وبعد حصوله على الشهادة العالمية، التحق بكلية الشريعة ودرس بها عاماً ونصف عام، ثم واصل دراسته بقسم التخصص ونال إجازة التدريس عام 1361هـ.
عاد الشيخ محمد سعيد دفتردار إلى المملكة عام 1362هـ فعينته مديرية المعارف معتمداً لها بالمدينة المنورة (أي مديراً للتعليم) كأول من يتولى هذا المنصب بالمدينة، كما أسند إليه إدارة أول مدرسة ثانوية فيها إضافة لعمله، وكان بحكم عمله معتمداً للمعارف يشرف على المدارس الحكومية والأهلية ومنها: دار العلوم الشرعية، ودار الأيتام ومدارس تحفيظ القرآن ومدارس في ذي الحليفة، وقباء، والعوالي، والقبلتين، ومنطقة العيون، وأحد، وخيف الحزامي، وبدر، وبشر، ومكيدة بخيبر، وتيماء، والحناكية.
وفي عام 1373هـ انتقل مدرساً بثانوية طيبة وظل بها حتى تقاعده عام 1384هـ وتفرغه للقراءة والبحث والتأليف.
محمد سعيد دفتردار أديباً:
بدأ يكتب الشعر مبكراً، فكان ينشر قصائده بالصحف والمجلات المصرية باسم مستعار هو: (أبو يعرب المدني) وسمى بعد ذلك أكبر أبنائه بـ(يعرب) كانت صحف الأهرام والسياسة الأسبوعية، والرسالة تنشر له، وبعد عودته للمملكة أصبح ينشر في مجلة المنهل وجريدة المدينة المنورة باسمه الصريح.
ومن قصائده التي نشرها ببيروت قصيدته بالمدينة ومنها قوله:
عابوا وفائي لدار المصطفى طه
وعيروني على عيني ومبكاها
رأوا ولائي لها مني مجازفة
يا ويحهم جهلوا نفسي ومرماها
بيني وبين بلادي أن أناجيها
سرٌ يلجم أسماعاً وأفواها
لا تأمرن بسلوٍ لست أسمعه
ما قولة السوء تصيبني بمغزاها
قال عنه محمد صالح عسيلان في (شخصيات مميزة): «... أما الوجه الأدبي للعلم/ محمد سعيد دفتردار فأنه أول من نادي بتأسيس النادي الأدبي بالمدينة المنورة.. وكان قد جعل من بيته موقعاً لهذه المنشأة حديثة التكوين واستضاف أعضاء النادي لمدة استمرت أكثر من عامين قدم فيها وقته وماله وجهده لهذا العمل العظيم..».
ومن أهم مؤلفاته:
1 - تاريخ الأدب العربي 6 ست أجزاء، دار النيل، القاهرة، 1374هـ.
2 - محاضرات دينية 10 عشرة أجزاء، مطبوع.
3 - نصوص مختارة، 3 ثلاثة أجزاء، مطبوع.
4 - مذكرات في تاريخ العرب قبل الإسلام، مخطوط.
5 - ديوان شعر، لم ينشر لدى ابنه عبدالرحمن.
6 - ملحمة شعرية حول المجاهد عمر المختار.
7 - قصة الأفندي.
8 - قصة المجيدي الضائع وقصة الحاجة فلحة.
9 - ذخائر المدينة، مطبعة الإنصاف بيروت، 1390هـ.
10 - أعلام المدينة المنورة، لم ينشر لدى ابنه هاني، نشر منه حلقات في جريدة المدينة المنورة، ومجلة المنهل.
قال عنه الدكتور محمد عيد الخطراوي: «... لقد كان - رحمه الله - شعلة من النشاط لا تهدأ، قضى حياته في خدمة العلم والفكر، فهو الإداري المحنك، والمربي الخبير، والمعلم القدير، وهو المؤرخ البارع، والناقد الفارع، والموسوعي الذي لا يشق له غبار، والشاعر الرقيق، والقاص الناقد البصير، والباحث المدقق، وليس على الله بمستبعد أن يجمع العالم في واحد...».
وقال عنه إنه مهتم بتراجم الأعيان وإنه ذا أسلوب متميز: «... وأما منهجه بين كتاب التراجم فهي الاهتمام بالنقاط المضيئة في حياة المترجم له، والتنويه بمآثره، والإشادة بمحاسنه، وهو منهج ارتضاه الكثيرون من القدماء والمحدثين ممن تولوا الترجمة لأعيان القرون المختلفة... ونلحظ أنه يبتعد عن المبالغة، ويحرص على الموضوعية قدر الإمكان... وقد ترجم لأحد الأعيان العلماء مثل الشيخ زاهد عمر زاهد، والشيخ عارف حكمة، والشيخ محمد بن أحمد العمري، والشاعر عمر بري..» . وغيرهم.
قال عنه محمد حميدة بعد وفاته ليلة الجمعة التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول عام 1392هـ بعد أن استعرض سيرة حياته وما كتبه عن أسرته عبدالرحمن الأنصاري في كتابه (تحفة المحبين والأصحاب في معرفة ما للمدنيين من الأنساب) إنه عندما تولى معتمدية المعارف لم يكن بالمدينة سوى ثلاث مدارس حكومية ومدرستين أهليتين، وأنه سعى بافتتاح أول مدرسة ثانوية وتولى إدارتها.. وافتتح الكثير من المدارس في المدن والقرى التابعة للمدينة.
كما قام بافتتاح المعهد العلمي السعودي وهو ثاني معهد علمي يفتح في المملكة - بعد مكة - ويتولى إدارته لمدة عامين.
وقال عنه محمد حميدة أيضاً - بصفته أحد تلامذته - : «... وكان يشجعنا بمنح المكافآت للحفظة الأوائل، والإعلان عن أسمائهم في لوحة الشرف، وكان لا يتقيد بالموضوعات المحددة بالمنهج بل كان يختار لنا الموضوعات الحية التي تحرك أفكارنا وتثير أحاسيسنا الوطنية والعربية، فلم تكن حصة الإنشاء وسيلة لتنمية قدرتنا الكتابية وملكة التعبير، بل كانت أيضاً وسيلة لتربية عواطفنا الوطنية وتغذيتها».