تركي بن رشود الشثري
فلسفة السعادة
هل أنت سعيد؟
وإذا لم تكن سعيداً فهل يعني ذلك أنك فاشل؟
ما السعادة؟
لا بد من التعاطي الرشيد مع موضوع السعادة وعدم الاستعجال في إصدار الحكم على أنفسنا بأننا لسنا سعداء، لأننا في الحقيقة دائماً ما نبالغ في موضوع السعادة إضافة إلى أن معنى السعادة معنى رجراج في أذهان كثير من الناس وله تفسيرات عدة، بل وأكاد أجزم أن كثيراً من الناس لا يدري هل هو سعيد أم لا؛ لذلك يعتبر من المجازفة إطلاق مثل هذه الأحكام على النفس بلا روية وضبط لتك المعاني التي نصف بها أنفسنا من قبيل «أنا سعيد أو غير سعيد», السعادة معنى شرعي ومن سعد في الأولى سعد في الأخرى، وطاعة الله سبب السعادة الأعظم، ومعصيته سبب الشقاء الأعظم، والذي يداوم الطاعات فهو سعيد، وإن طرأ عليه شيء من مقارفة الذنوب فهو شقي بمقدار ما اقترف، إذن فبالإمكان اجتماع السعادة والشقاوة بنسب معينة في الشخص الواحد وتباين حاله من يوم إلى يوم ومن عام إلى عام والعبرة بخاتمة السعادة, إذن السعادة فعل وليس اتكاء، وكذلك الإنسان يسعى إلى الشقاء بقدميه يقول آلن ((من المستحيل أن نكون سعداء لو لم نرد ذلك، لا بد إذن أن تتوفر لدينا إرادة وفعل السعادة))، وعليه فالإغراق في الإيجابية المستوردة، وأن عليك أن تكرر عند الاستيقاظ من النوم بضع كلمات من مثل «أنا سعيد» مرات عدة لا يبدو أمراً مجدياً، فالسعادة ممارسة وقانون اتساق حياتي تلتزم به وتحصّل من النتائج على ما كتب الله لك، يؤكد فردريك لونوار هذا المعنى بقوله ((توجد إذن ألف طريقة وطريقة لنأمل في السعادة دون أن نريدها فعلاً, ومن دون أن نوظف الوسائل الضرورية لبلوغها)).
السعادة لها مقومات ولا يمكن بحال أن تسعد بشيء طارئ قد يزول.
يقول فردريك ((إن عدم التعلق بالأشياء هو إحدى الوسائل الأساسية لعيش حياة سعيدة)) ويكمل بقوله ((علينا أن لا نتعلق بما هو غير ثابت كالصحة أو الثروة أو مراتب الشرف)).
عندما تكون لوحدك ولا تتنسم السعادة فلديك نقص بالغ في هذا المعنى، فالسعيد لا يحتاج إلى شيء كي يكون سعيداً، يؤكد هذا آرثر شوبنهاور بقوله ((إن ما يمتلكه شخص لنفسه ويرافقه في عزلته ولا يستطيع أحد أن يأخذه منه أو يعطيه إياه هو أكثر جوهرية من كل ما يمتلكه أو ما يكون عليه في عيون الآخرين)).
مشكلة الإنسان هو قدرته الفائقة على التفكير في الماضي وتخيل المستقبل، ولو اكتفى بما فرض الله عليه الآن وما يقع تحت مسؤوليته وعاش كما يقولون لحظته بتركيز وحضور فاعل لاستقر واقترب شيئاً فشيئاً من السعادة، فكم في الماضي من جراح وكم في المستقبل من مجهول، فإذا أضفت هذا لذاك مع عقبات الحاضر فكأنك تدفع السعادة دفعاً وتطردها طرداً, وهذا ما يعرف بـ «تمرين الانتباه» ويسمونه «عيش الحاضر» وفي الدورات التدريبية يسمونه «عيش اللحظة» وهو مبدأ رواقي لا يمنعنا منه أصله ولا المبالغين في التأكيد عليه ولكن نستعمله بقانون الشريعة ومقادير العقل مع مراعاة ظروفنا واختلاف أحوالنا.
يقول الإمبراطور الروماني مارك أوريل ((لا تدع نفسك تضطرب من جراء تصور حياتك كلها بالإجمال))، بمعنى لا تقلق من أجل المستقبل والذي لم يحدث بعد.
إذن انتبه وأنت في العمل, وأنت تمارس هواياتك, وأنت في نزهة, وأنت في النادي انتبه لعمل عضلاتك, وأنت تكتب انتبه لتداعي الأفكار, وأنت ترسم انتبه لانسياب الألوان وتقاطع الخطوط، وأنت تناقش انتبه لأصل الفكرة وأصغ سمعك لمحدثك، كف عن الشرود والأحلام التي لا تنتهي فحلمك الجميل هو واقعك الجميل مع إعطاء هامش لإطلاق الفكر والخيال بعيداً عن ضرورات الواقع في لحظات التأمل.
يقول دنيس ديدرو ((ليس هناك سوى واجب واحد: أن نجعل أنفسنا سعداء)).
لو تذكرت طفولتك وأزمان براءتك لرأيت أن السعادة لم تكن واجباً أو حملاً أو تكليفاً بل كانت ميسم حياة تتفتح مع زهور الصباح ويدعاب عينيها النوم مساء في خدر ممتع بلا اصطناع، يعلق فريدريك لونوار على مقولة باسكال بروكنر «إلزامية السعادة» بقوله ((كيف تحول البحث عن السعادة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بشكل مطرد إلى إلزام بالسعادة هكذا صار الحق في السعادة واجباً وبالتالي وزراً ثقيلاً وصار الإنسان الحديث محكوماً بأن يكون سعيداً في الواقع، إن «وسواس السعادة» يشكل غالباً عقبة أمام السعادة لأن المجتمع التجاري يجعل السعادة مرتبطة باستهلاك الأشياء وبالمظهر الجسدي وبالنجاح الاجتماعي وغالباً ما ينتقل أولئك الذين يستسلمون لها من لذات مشبعة إلى لذات جديدة غير مشبعة أي من حرمان إلى حرمان ويكمل «لقد كشف عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر أن الإصلاح البروتستانتي قد أخرج الزهد المسيحي والحياة المنتظمة من الدير ليضعها في إطار الحياة الفاعلة للعالم»، فالانضباط المبجل من قبل الرهبان من أجل ضمان خلاصهم قد تحول باطراد إلى شكل آخر من أشكال الإكراه الذي يجبر كل واحد نفسه عليه بغية بلوغ سعادته، إنه تقشف التاجر الذي يعمل ليل نهار ليزيد من ثروته وهو تقشف عداء المارثون وعاشق الرياضة «حيث تبدو التمارين الجسدية غالباً بوصفها المعادل الحديث للتمارين الروحية عند القدماء»، وهو تقشف الأهل الذين يقومون بوظائف كثيرة: أطفال، هوايات، أصدقاء، فينتهون منهكين بسبب رغبتهم في القيام بكل هذه الأشياء مجتمعة.
في النهاية هناك دراسات أمريكية قد أثبتت أن التعاسة تنتج غالباً من تحديدنا لغايات بعيدة المنال جداً من المستحيل علينا بلوغها، ومن ابتدائنا من رغبة أن نكون سعداء جداً.
تؤكد هذه الدراسات أعمال الباحث الفرنسي آلان أيرنبيرغ حول «التعب من تحمل الإنسان لوجوده»، يظهر أيرنبيرغ أن تجليات مرض الكآبة المتعددة التي تصيب الإنسان الغربي « تعب مزمن، قلة نوم، اضطراب، قلق، تردد» تبين الثمن الذي يجب دفعه للإلزام المزدوج أي: الاستقلال الذاتي وتحقيق الذات بوصفه فعلياً «مرض المسؤولية»، فإن الكآبة هي عرض يصيب الفرد المتحرر من الوصاية الدينية والاجتماعية فيما يسميه بـ «الشخصية المريضة».
يختم لونوار بقصة حيث أسرت له إحداهن بأنها عاشت مدة طويلة مكتفية بما هي عليه ثم في يوم ما طرحت عليها صديقتها سؤال «هل أنت سعيدة؟» تقول لم أكن قد سألت نفسي أبداً هذا السؤال، وفجأة فقدت فرح الحياة إذ أن طرحي لهذا السؤال عذبني، ويضيف إلى القصة وصية وهي صعود السلم درجة درجة وبلوغها عبر مراحل والمثابرة من دون تشنج مع معرفة كيف نرخي قبضتنا عليها أحياناً ونقبل بخسائر ومجريات الحياة وهو ينقل ذلك عن مونتين وبعض الحكماء الصينيين الذي يرون أن علينا أن نترك اهتمامنا يمارس دوره من دون جهد ونكون مرنين وصبورين من دون توقعات مبالغ فيها.