عبد الرحمن بن محمد السدحان
* شرّفني معالي الصديق الدكتور ساعد العرابي الحارثي، بطلب الاطلاع على مشروع كتاب عن سيرته الذاتية المشحونة بذكرياتٍ ومواقفَ موزعةٍ بين واحات الفرح ومتاهات الحزن، بدْءاً بفجر الولادة، وانتهاءً بما آل إليه في سلم «الأكاديميا» والإنجاز العلمي والمهنيّ.
* * *
* وقد رحبتُ بطلب معاليه إرضاءً لرغبة خاصة أملاً في التعرّف على بعض الجذور والأسباب التي تشكّلت في ظلالها شخصيته، وأقرّ هنا أنني قبل قراءة سيرته كان يساورني هاجس الفضول لمعرفة المزيد عنه رغم تشرُّفي بصداقته زمناً طويلاً!
* * *
* وبمعنى آخر، ترسّبت في خاطري عبر السنين أشاراتٌ وتساؤلاتٌ لم أفلحْ، فطنةً أو ذكاءً، في (فكّ شفرة) تلك الشخصية المتدفقة نبوغاً!
* كنتُ ارتدُّ بتساؤُلاتي إلى ركنٍ خفيّ من نفسي متمنّياً أن يحلَّ يومٌ يمنحني فيه القَدرُ فرصةَ (التسلّلِّ) البريء إلى مجاهل شخصية هذا الرجل الرائع، فأعرفَ عنه ما لمْ أعرفْه من قبل، وخاصة فترة طفولته الحرجة، لعلِّي أهتدى إلى ما كنت أنشد عنه علماً!
* * *
* ولقد أنستُ برفقة مؤلَّفِ الصديق ساعد أياماً معدودات أواخر الصيف الماضي، وكانتْ تجربة اختلطت فيها هواجس (الباسم الباكي) في أعماقي، كان الكثيرُ من فصول الكتاب يحرّضني على ذلك، فتارةً (ابتسمُ) أمام موقف من مواقف بعض المراحل العُمرية المبكرة للمؤلف، بدْءاً من (المريفق) (ديرة الجذور الحارثية)، مرُوراً بالطائف ثم الرياض، وما شهده من مفارقات وأحداث.
* * *
* وتارةً أخرى، تحاصرُ جفوني عبرةُ حنان تأثُرّاً بما قرأت، خاصة حين فقَد المؤلفُ والدتَه وهو لم يزلْ في المهد وليداً، ثم تبعها والدُه - رحمهما الله- بعد ذلك بسنوات، لتنضمَّ إلى ذلك حزمةٌ من المواقف الصَّادمة لإحسَاسِ الشاب ساعد، وثقتِه في نفسِه التي أجبَرتْه على الانحناء أمام العاصفة مؤَقَّتاً حتى تَتَوارى وقائعُها، ليعودَ إلى نفسه بعد ذلك أشدَّ قوةً وأذْكىَ إصراراً على متابعة بناء ذاته وسط موجَات الشَّدائد، وتلك نفسٌ تَرفضُ الضَّعفَ أو الاستسلام لصعابٍ شكّلتْها الظروفُ القاسية لصاحب السيرة، وظلَّ متشبّثاً بحلمه أن يصنعَ لنفسه مكَاناً ومكانةً تحتَ الشمس، مهما استنزف ذلك منه جُهْداً وسَهَراً وأرَقاً!
* * *
* خرج ساعد من (المريفق) ديرةِ الأجداد، يحلمُ بأن يشقَّ طريقَه وسط محطات الطموح وتحدَّياته، فكانت المدرسة بمراحلها الثلاث مطيتْه في ذلك، لم يخلف له ظن، أو تجف عزيمةٌ، أو تضعف له ثقةٌ في إدراك أمانيه عبْر بَوابةِ المعرفة، ليجْتَازَ بوابَاتِها الثلاث متفوّقاً!
* * *
* وجاءت المرحلة الجامعية ليستأنف صاحبنا مشوار حلمه الطموح، فينال شهادةً من جامعة الملك سعود بالرياض بتفوق أيضاً، ثم يشغل بعد ذلك وظيفةَ معيدٍ في ذات الجامعة، قبل أن يمنحَه القدرُ فرصةَ الابتعاث إلى أمريكا، بدْءاً بإجازة (الماجستير) التي لم يستغرقْ نيلُها زمناً طويلاً، وتكون (الدكتوراه) عروسَ حُلمه وتاجَه، فيفوزُ بها ويعودُ ساعدٌ (دكتوراً) إلى بلاده مكلّلاً بغار التحصيل العلمي المتفوّق.
* * *
* كان الأهم من ذلك كله، انتصار الدكتور ساعد على سطوة الظروف القاسية التي رافقته منذ لحظة ميلاده، بدْءاً بوفاة والديْه رحمهما الله، وما تلا ذلك من صعاب بيئية ومعيشية واجتماعية ونفسية، وقد اختزل المؤلف لها رمزاً واحداً جعله نصب عينيه، فاعتبر كل عقبة (تحدياً) لا يهدأ له بال، ولا يقرّ له طَرْف ولا مقر حتى يتغلب عليه منتصراً!