د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
أدمن المواطن العربي الوهم لعدة عقود فيما يتعلق بالقضية المحورية في تاريخه السياسي الحديث، القضية الفلسطينية؛ وصدّق كل ما قيل له عن عزم العرب تحرير فلسطين من النهر للبحر رغم أنه في كل مرة يعلوا ضجيج التحرير يخسر العرب مزيدًا من الأرض. وبدلاً من تحرر ما هو شرق النهر خسر العرب غرب النهر. الأحزاب الإسلامية بدورها لأهداف مشابهة أعادوا الأمة لغابر تاريخها السحيق بناء على نصوص لم تمحص ولا يقبلها عقل. فالعرب هم الأمة الوحيدة في التاريخ التي مارست «تطبيع» الوهم، وعاشت نصف قرنٍ من حالة لا سلم ولا حرب استعدادًا لحرب التحرير الكبرى لفلسطين. والحقيقة أن إسرائيل لم تخض طيلة تاريخها القصير أية حرب بمفهوم الكلمة مع العرب الذين يتراجعون بسرعة لحسابات داخلية ولم تكن لديهم قط الرغبة في الحرب رغم كثرة كلامهم وهياطهم عنها. فتاريخ القضية الفلسطينية تاريخ متسلسل من الهزائم والانكسارات العسكرية استغلت لتنفيس الداخلي العربي.
تعيد جميع الأمم النظر في تقييم تاريخها، فلم يكتب تاريخ بسردية واحدة لا خلاف عليها ولا جدل كما كتب تاريخ القضية الفلسطينية. ولا يجرؤ أحد على مخالفة هذه السردية الدوغمائية الكبرى دون أن يخون ويهدر دمه. ولا شك أن إسرائيل كانت المستفيد الأكبر من هذه السردية القومجية. الإسرائيليون أنفسهم أعادوا كتابة تاريخهم، بل إن بعضهم شكك فعلاً في حق اليهود في أرض فلسطين وتم وصمه بيهودي معادٍ لليهودية ولكن لم يطلق عليه أحد صفة الخيانة. فالخيانة لا تعني نقد الذات بل تعني الاصطفاف مع العدو ضد الوطن. العرب بالمقابل وصموا بالخيانة كل من اختلف في الرأي معهم، لكنهم لم يصموا بالخيانة الحقيقة من مارس الخيانة الفعلية وتعاون سرًا أو علنًا مع دول معادية ضد الأمة العربية. فلا فرق بين المحتل سواءً كان فارسيًا أو يهوديًا. والخيانة مع إيران والقتال في صفها لتدمير البلدان العربية لا يقل بأية وجه عن الخيانة مع إسرائيل. إسرائيل احتلت بلدًا واحداً ثلث سكانه عرب يهود مهاجرين وكثيرًا منهم سكنوا فلسطين قبل قيامها. أما إيران فاحتلت أربع بلدان عربية ودمرت مدن السنة الكبرى بجيش اسمه «فيلق القدس»!! والأدهى أن هناك من يعتبر الاصطفاف معها «مقاومة»!! والحقيقة أن إيران برهنت بالفعل لا القول وعبر واقع حروبها على العرب واحتلالها لمعظم بلدان المشرق العربي أنها أخطر بكثير من إسرائيل.
القضية المحورية الحقيقية في تاريخ العرب ليست إسرائيل بل أنماط حكم الأقليات الحزبية والمذهبية التي استغلت قضية فلسطين لتبرير وجودها واستمرارها، وربما شمل ذلك بعض المنظمات الفلسطينية ذاتها التي تحولت قياداتها مع الزمن إلى أوليغارشيات متحكمة تتاجر كغيرها بقضية فلسطين. أمر مؤسف لكنه واقع معاش. فالقضية الفلسطينية استغلت كستارة كبيرة تحجب خلفها الكثير من قضايا التخلف والفساد والخيانات الحقيقية. ورغم كل الهزائم ما زلنا نردد الخطابات العنترية ذاتها. والمثل الشاخص هو ميلشيا حزب الله التي تحكم لبنان بقوة السلاح لصالح دولة أجنبية، وتمارس الخيانة في وضح النهار باسم تحرير القدس وفلسطين، «ومقاومة إسرائيل» والأعجب من ذلك كله أن هناك من الجهلة العرب من يصدق هذا الادعاء!!
المسكوت عنه في تاريخنا المجيد هو أن كثيراً من العرب أسهم فعلاً في تأسيس دولة إسرائيل بمباركة من الدولة العثمانية، وأن ثلث سكان إسرائيل هم من اليهود العرب الذي أجلتهم الدول العربية بممارسة التفرقة الدينية ضدهم. وأن نصف الشعب الفلسطيني يعيش على العمل داخل إسرائيل والنصف الآخر على المعونات الخليجية. وأن الفلسطيني يعيش في إسرائيل بكرامة أكثر من الفلسطيني في لبنان وسوريا. وأن القيادات الفلسطينية مارست التطبيع مع إسرائيل قبل ثلاثين عامًا في أوسلو دون استشارة أي دولة عربية، وتطالب دولاً أخرى بعدم التطبيع من أجل استرداد حقوق الفلسطينيين المسلوبة!
عاش العرب أحلامًا قوميةً رومانسيةً في الظاهر وقبضات حديدية وفسادًا في الداخل والمستفيد الأول منها إسرائيل، أعلنوا أهدافًا نبيلة في العلن ومارسوا سياسات دنيئة في السر، فلا هم حاربوا ولا هم طبعوا، أي كما يقول المثل الشعبي، لا نحن طبنا ولا غدى الشر. ولو أخذ العرب بنصيحة الرئيس التونسي الراحل أبو رقيبة، الذي كان من أوائل من مورس التخوين في حقهم، بالقبول بحل الدولتين في عام 1956م لاحتفظ العرب بنصف فلسطين وبكرامتهم معها. ولو منح عرب المقاومة الحقوق المعقولة لشعوبهم لذابت إسرائيل تطبيعًا فيها.