د. حسن بن فهد الهويمل
النسق الثقافي لكل كاتب، يتحكمُ في سائر توجهاته. ومن المسلمات مقولة: [قُلْ لِي ماذا تقرأ، أقل لك من أنت]. وممارسة الإنسان تراوح بين رؤيتين عَقَدِيَّتَيْن مهمتين: التخيير، والتسيير. والمتلقي على ضوئهما يراوح بين التوكل، والاتكال.
ومامن متكلم خاض في [القدر] إلا عمق الشكوك، وأثار التساؤلات.
لأنه سر الله في خلقه. وهو كما [الروح] وجود متيقن، وحقيقة مجهولة:- وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً .
والفلاسفة في حقيقة الأمر لا يبحثون عن الحكمة. كما يدعون. وإنما ينقبون عن حقيقة الأشياء. على خطى:- أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ، و كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى؟ . وكانت كلتا الإجابتين صارفتين، وحاملتين على الإيمان القوي.
[قواعد اللعبة ] ليست عصية كما [الروح، والقدر، والتخيير، والتسيير]. ولا ممنعة كـ[علم الغيب].
ولو تعقبها [كُتَّابُ الرَّأي] واستحضروها، لكان تشكيل الأنساق الثقافية في أفضل أحواله.
عجبي ممن يغامرون في تشكيل [الرأي العام]، وما في أنساقهم الثقافية شيءٌ عن [قواعد اللعب] القريبة المنال.
تصورُ البعضِ لها، يعمق الجهل، ويطيل زمن التيه، والتخبط. فهي ليست مناهج، وليست أصولاً. إنها أحداث مصيرية، غيرت مجرى التاريخ.
[الغرب] حين نهض في زمن التفكك العربي، والإسلامي قرر أن ينهي الندية إلى الأبد. ومن لم يقرأ أحداث اليوم على ضوء ذلك، ضل سواء السَّبيل.
القليل من [كتاب الرأي] من يحتفظ في ذاكرته بشيءٍ عن مكامن اللعب، كـ [سقوط الدول]، وقيامها.
[سقوط الأندلس]، و[قيام الدولة العباسية] وانهيارها، وقيام [الدول المتتابعة]، وتلاشيها. وسقوط [الخلافة] ونشوء القُطْرِيَّة، كل ذلك بعض لحمة اللعب، وسداها.
ودَعْكَ مِنْ تنحية العربي عن قيادة الأمة العربية، والإسلامية منذ العصر العباسي الثاني. فزعامات [الدول المتتابعة] غير عربية، وغالب ولائها عرقي، أو طائفي. باستثناء البعض كـ[الأيوبية].
والتاريخُ عند البعض منا مجردُ أحداث تاريخية. منفصلٌ بعضها عن بعض.
ومن كتب عن قيام الدول، و سقوطها، وأسباب القيام، وعوامل السقوط، يقدم شيئا من تلك القواعد. ولكنه لا يتصورها، بحيث يعمق الرؤية، ويحدد الأبعاد.
والكتب المهمة، التي غيرت مجرى التاريخ، قد لا تعيش حضوراً في المشهد الثقافي بالقدر الكافي. ومنها على سبيل المثال: [لعبة الأمم]، و[صدام الحضارات].
لقد امتعض البعض من رؤية [صامويل هنتنجتون 1927م - 2008م] العالم السياسي، الأمريكي، وشنعوا على رؤيته المتمثلة في حتمية [صدام الحضارات ] وكأنهم بسذاجتهم، ووداعتهم يودون لو أنه استبدل الصدام بالحوار.
لكنَّه بما يملكه من معرفة ،وثقافة ،ووعي انطلق من [قواعد اللعبة] المتمثلة بالأحداث المصيرية، التي وقعت نتيجة مكر، ومخادعة، وتخطيط .ولم تقع بالصدفة. ومن ثم فالوفاق عنده حلم. ومن رتب أموره عليه، فاته الركب المخب.
والدليل على وعيه ومعرفته كَوْن أطروحته تلك شغلت المحافل السياسية، وأقرّت ختمية الصراع.
نواة الكتاب مقال يصحح فيه الرؤية العنصرية المتغطرسة لـ[فوكوياما]. ولأهمية أطروحته أصبح مخططا أمنيا في إدارة الرئيس [ليندن جونسون].
والأهم أنه عاش في ظروف عصيبة، تواجهها [أمريكا]، متمثلة بمجمل التهديدات الخارجية من [روسيا]، و[الصين]، و[الحرب الكورية]، والظاهرة [المكارثية] .
إتقان [هنتنجتون] لقواعد اللعب، مكنه من توعية القيادة السياسية في أمريكا، وتمكينها من تخطي الأزمات، وتحقيق الانتصارات. وإن تحولت في الرؤية العالمية إلى دولة تصنع الشر.
لقد نظر إلى تلاحق [الانقلابات].وَخَوَّفَ من استراحة المحارب، التي مهد لها [فرانسيس فوكوياما] في كتابة [نهاية التاريخ].
[فوكوياما] غيب اللعب في نشوة الانتصار.
و[هنتنجتون] استحضرها في ذروة التحديات.
[فوكوياما] مارس التطمين.
و[هنتنجتون] مارس التحذير.
كلاهما [عنصري]. ولكل عنصرية منطلقاتها. فالأول انطلق من الكبرياء الواثقة. والآخر انطلق من السيطرة الخائفة.
والفرق بين الاثنين أن الأول عاش سكرة الإنتصار. والآخر وَعَى لحظات التحدي. والنتيجة أن من وعى اللعب، ظلت يده على الزناد .ومن جهلها أقبل على أمته عارضاً رمحه، ليقال له:- [إن بني عمك فيهم رماح].
مشكلة الكاتب العربي القطيعة مع قوانين اللعب. ومتى غابت عن الوعي أصبح الكاتب سطحي الرؤية، ضحل المعرفة، يجتر الأحداث بمعزل عن أسبابها، ونتائجها، وصُنَّاعها المهرة.
رؤساء أمريكا منفذوا [أَجِنْدَةٍ]، فـ[أوباما] غض الطرف عن مقترفات [إيران]. و[ترامب] قَعَّر الرؤية. و[الغض، والتقعير] داخلان في حسابات اللعبة، وخارجان من مطابخها. والذكي المستهدف من يستحضر:- إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً .
البعض منا ابن لحظته، لا يلتفت إلى الماضي، ولا يستشرف المستقبل. و من ثم يكون كالمسافر الذي مر بشجرة، فاستظل تحتها ساعة من نهار ، ثم بارحها، ناسيا كل متعلقاتها.
التاريخ سلسلة أحداث، ولكل حدث تفاصيله، ومآلاته، ومن حفظه أحداثًا أصبح:-
[كَالْعِيْسِ فِي البَيْدَاءِ يَقْتُلُها الظَّماء
والماءُ فَوقَ ظُهورِها مَحْمُولُ]
الصراع القائم صراع مصالح، وحضارات، وأعراق و[آيديولوجيات]، ولكل نوع [استراتيجيته]، ومن أحسن الظن، خَابَ، وخَيَّبَ.
[الجزر، والمد] في قضايا مشرقنا ليست اعتباطاً، إنها نتاج مطابخ سياسية.
كثر من الدراسات المعمقة الواعية تقارب اللعب، وبخاصة سلسلة الكتب التي غيرت مجرى التاريخ. وتلك مقولة حق، ولكنها لا تَصْدُق على كل الكتب المختارة.
لقد تابعت هذه السلسلة، ووجدت في بعض إصداراتها ما ينطلق من قواعد اللعب، أو يرسم الخلاص منها.
ومثلما تُغَيِّرُ الكتبُ مجرى التاريخ، فإن من العظماء من يملك تلك القدرة.
الشخصيات التاريخية تستبطن الوعي، وإن لم يتوفر البعض منها على القراءة بالقدر الكافي: كمّاً، ونوعية.
ميزة هذا الصنف أنه يملك الاستعداد الذاتي، كـ[الملك عبدالعزيز] ابن البادية، صفاء ذهن، ونقاء موقف.
وحين يكون الاستعداد ذاتِياً، تكون الحياة صحفاً منشورة، تُعَوَّضُ عن الرسم بالكلمات، فالمسطور في النهاية قيد لأوابد الممارسات، وتكون الممارسة الذكية قدوة مقروءة كالمسطور.
التاريخ في ظل الوعي الفطري لايستطيع إعادة نفسه، ومن جهل أنه وعاء قوانين اللعب، وقواعدها مَكَّنه من استعادة نفسه.
وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ .