عبدالعزيز السماري
لا يمكن أن تبني دولة اقتصادا قويا ومتينا في ظل تفشي فساد استغلال النفوذ، وهو ممارسة غير قانونية تتمثل في استخدام نفوذ شخص ما داخل حكومة أو إجراء اتصالات مع أشخاص من داخل السلطة للحصول على امتيازات أو معاملة تفضيلية لشخص آخر، عادةً مقابل دفع المال كذلك يطلق على هذا المصطلح المتاجرة بالنفوذ أوالتجارة بالنفوذ، ويعد أخطر فصل في وباء الفساد الإداري والمالي.
لا يمكن لدولة أن تتجاوز أمراض العالم الثالث وتدني مستويات المعيشة والإنجاز وارتفاع الهوة بين الغنى والفقر إلا بالخروج من العوامل المؤدية إلى الفساد، وذلك بوضع القوانين النافذة وتطبيقها على الجميع، وذلك من أجل المصلحة العليا للدولة، والاستقرار والتنمية وتحقيق الأهداف. أحسب أن أشهر قصة مؤثرة في تاريخ مكافحة الفساد كانت في سنغافورة، في الرسالة التي تركها وزير التنمية الوطنية سنة 1986 قبل انتحاره التي جاء فيها «رئيس الوزراء.. تملكني شعور شديد بالأسى والاكتئاب.. أحسست أنني مسؤول عن هذا الحدث المشؤوم وعلي تحمل المسؤولية كاملة، وبوصفي رجلاً شرقياً نبيلاً وشريفًا أشعر أن من الحق أن أنزل بنفسي العقوبة القصوى على خطأي»، وكان ذلك نتيجة متابعته بتهم الفساد، وفضل الانتحار على أن يلاحقه العار طيلة حياته. كانت سنغافورة تتبوأ الدولة الأكثر فساداً على وجه الأرض، لكنها خاضت أعظم تجربة لمكافحة الفساد، وتحولت بعد تلك التجربة وفق معايير منظمة الشفافية الدولية الدولة الأقل فسادًا في آسيا، ومن الأقل على مستوى العالم، ووضعت بعد ذلك قوانين وتشريعات تجعل من التلاعب بأموال وثروات الدولة الجريمة الأكبر وتستحق العقاب الأشد، وكان ذلك سبباً رئيسيًا في نهضتها الاقتصادية من بعد..
كذلك لا بد من الإشادة بالتجربة الصينية في القضاء على الفساد، وذلك عندما تقدمت الصين بثبات في حملتها لمكافحة الفساد في مختلف المستويات، وقد أطلقت بكين عمليات مثل «شبكة السماء» و»صيد الثعالب» في الخارج لتعقب المسؤولين الهاربين إلى نهاية مايو 2017، وتمكنت الصين من اعتقال 3051 هاربًا وأعادت أكثر من 100 هاربٍ من 90 دولة ومنطقة في العالم، وحتى نهاية يوليو 2017، اعتقلت الصين 43 شخصًا مدرجين على النشرة الحمراء للإنتربول.
وفتحت الصين أبوابها مع البنك الدولي لبحث التعاون الدولي في مكافحة الفساد في سبتمبر الماضي في بكين، وتضمنت العمل على تطوير دور الحكومة فى خلق بيئة الأعمال النظيفة والعمليات التجارية القانونية للشركات والتعاون المشترك في مكافحة الكسب غير المشروع بين المشاركين في مبادرة الحزام والطريق.
القضاء على الفساد ليس بالعملية السهلة في مجتمع مترابط اجتماعيًا، وقد عانت دولة كوريا الجنوبية في حربها على الفساد من ثقافة العلاقات الاجتماعية، لكنها نجحت في نهاية الأمر في القضاء عليه، وتهيئة البلاد لنهضة اقتصادية كبرى، ولم يحدث ذلك بدون مواجهة التحديات والصعوبات التي تقف حائلاً ضد التطور وحقوق الأفراد والشركات بدون متلازمة استغلال النفوذ. الدولة في هذا العصر لم تعد كياناً تقليدياً كما كانت القبيلة في الأزمنة الغابرة، ولكنها حدود لا نهاية لها للقيم والمصالح المشتركة بين أفراد المجتمع بدون تفرقة أو تمييز، و يتطلب نجاح ذلك وجود سلطة عليا قادرة على فرض أنظمة العدالة والقانون، بالإضافة إلى تعاون الشركاء وخضوعهم لهذه الشروط من أجل تهيئة فرص العمل والإنجاز والنجاح للجميع بدون معوقات الفساد المالي والإداري،،