د. محمد بن إبراهيم الملحم
لماذا يضرب المعلم الطالب المشاغب؟ تحدثت فيما سبق عن عوامل تجيب عن هذا السؤال دون أن يبرر ذلك خطأ المعلم ومخالفته للنظام واليوم أضيف عاملين ضخمين جدا: أولهما غياب القدوة وثانيهما تهرب المؤسسات من مسؤوليتها الحضارية، فانعدام القدوة له أكثر من بعد سواء في عموم مجتمع المعلمين الذين يتعامل معهم الطالب يوميا (ربما أكثر من تعامله مع أبيه) أو في غياب القدوة الحسنة من أبيه أو ولي أمره الذي لم يوفر له التنشئة الحسنة أو يقدم له الأنموذج الصالح ، ويعزز ذلك غياب المؤسسات التي تحاسب أولياء الأمور على تدميرهم أخلاقيات أبنائهم وسلوكياتهم، فهناك من يُشعر ابنه أنه مستعد للدفاع عنه إذا مس أحد مشاعره، وهناك من يشعر ابنه أنه الأفضل بين كل طلاب المدرسة (ومعلميها) لأي سبب اجتماعي أو غير اجتماعي ، وهناك من لا يتورع عن أن يراه ابنه يمارس إيذاء الآخرين شتما أو نصبا واحتيالا أو حتى ضربا في بعض الأحيان، وهناك من يمارس إيذاء ابنه بالضرب والإهانة فلا يردعه أحد لينعكس ذلك على سلوك الابن في المدرسة ، وهناك من يضرب زوجته أمام أبنائها، أو أكبر أبنائه أمام إخوانه الصغار، وهناك وهناك... أمثلة كثيرة نراها ونلمسها بل نعيشها يوميا ولم تعد قصصا تروى فنسمع عنها من بعيد.
فلا مؤسسات التعليم تعبأ بشأن عامل القدوة الحسنة في معلميها بأكثر من المستوى التوعوي، ولا مؤسسات الرعاية الاجتماعية تهتم بدور الأسرة في تحطيم قيم الطفل السلوكية ، وهو سبب رئيس لتحطم كثير من المثل التربوية في الأسر وبالتالي في عموم المجتمع، ولم يبق سوى التوعية الدينية وهذه في ظل الأزمات الأيديولوجية التي تعصف بالمجتمع فتقسمه إلى فئات وطوائف ومذاهب وجماعات جعلت من استجابة الأسرة والوالدين للرسالة التربوية والتوجيهية التي تبصرهم برعاية أبنائهم نحو مجتمع متحضر رهنا لتقييمهم منشأ الرسالة فيأخذوها إن كانت من مصدر ثقتهم فقط ، هذا سوى أن التوجيه الديني قاصر غالبا على الأسلوب التقليدي، وإذا أضفت إلى هذا الكوكتيل درجة «الجهل» التي تجذرت في سلوك بعض الآباء اكتمل النصاب.
الأسرة أساس المجتمع تسمو بالرعاية، وفي بريطانيا مثلا هناك خدمات إرشاد اجتماعي لكل حي تقريبا حيث يقوم موظف أو موظفة الرعاية الاجتماعية بزيارة كل بيت للاطمئنان على احتياجاتهم النفسية والاجتماعية وتقديم المشورة، وفي حالة الطالب سيء السلوك فإن المدرسة إذا ما اتبعت كل إجراءاتها وعجزت عن إصلاح الأمر تتصل بهذا المكتب ليرسل المرشد الاجتماعي فيطلع على طبيعة حياة الأسرة ويقيم الموقف من هذا الجانب ويضع مع الأبوين المتعاونين بخبراته العميقة خطة الإصلاح، أما إذا اكتشف أنهما أساس المشكلة فيحاول بنصحه الارتقاء بهما ، فإن أفلح وإلا يرفع بشأنهما لاتخاذ إجراءات تصحيحية، وربما وصل الأمر إلى سحب ابنهما لتتولى الحكومة تربيته مع وضع الوالدين (أو أحدهما) في القائمة السوداء اجتماعيا! هكذا تبنى المجتمعات المتحضرة نفسها وإلا فلديهم حالات صعبة كما لدينا، كما أن هناك كل أنواع الممارسات الخاطئة ولكن لكل مشكلة حل ومسار للتصحيح، ولو قارنا هذا بما لدينا سائلين: أين تقع مؤسسات الرعاية الاجتماعية لدينا وفي أية خطوة من الألف ميل هي الآن، ستكون الإجابة مفجعة.
أما مؤسسة التعليم فهي لا تعنى بالطالب المشاغب سيء السلوك بأكثر من وضع لائحة أو نظام ولكن عندما يعجز فلا تملك حلا إصلاحيا جذريا... في بريطانيا مثلا ، ينقل الطالب صعب المراس إلى مدرسة أخرى بعد أن تستنفذ المدرسة طاقتها في إصلاحه ، وإذا لم يسهم النقل في تعديل سلوكه ينقل إلى مدرسة خاصة بهذا النوع من الطلاب ومع أن هذه المدارس تحمل أسماء خاصة بها (مثلا المراكز الذكية ، مراكز التفوق .. الخ) لكنها كنوع مؤسساتي يطلق عليها «وحدة إحالة الطلاب» Pupil Referral Unit وهي تتميز بأن معلميها لديهم خبرات أفضل في التعامل مع هؤلاء الطلاب ولديهم مهارات متميزة مما يساعد على نجاح المدرسة في إصلاح هؤلاء الطلاب ، أحد أصدقائي البريطانيين يخبرني أن منطقته الصغيرة التي لا يتعدى عدد مدارسها 70 مدرسة مخصص لها مدرسة واحدة من هذا النوع لإحالة الطلاب صعبي المراس إليها بعد استنفاد كل الطرق والأساليب الممكنة معهم داخل المدارس العادية ، وفي الولايات المتحدة توجد مثل هذه المدارس تحت اسم «المدارس أو المراكز العلاجية» مثل Therapeutic Private Day School Programs وكذلك Residential Treatment Center لا أدري هل تعلم وزارة التعليم لدينا عن هذا النوع من المدراس وإن كانت تعلم فمتى تنوي أن تدرس الأمر أو تفكر فيه بهذا الاتجاه!