د. حمزة السالم
من أشهر التفسيرات التي انتشرت قديما، لتعثر المدن الاقتصادية، هو أن كلفة بناء البنية التحتية أكبر من أن يتحملها القطاع الخاص، والواجب أن تتحمل الدولة كلفتها. وبغض النظر عن هذا التبسيط للمشكلة. إلا أنني سأستخدم منطق عجز القطاع الخاص عن بناء بنية تحتية مرتفعة الكلفة كحجة طرح هذا المقال.
فبناء بنية تحتية ضخمة عالية الكلفة تحتاج لعقود زمنية لاسترجاع الكلفة، وهذا لا يتناسب مع القطاع الخاص. كما أن ارتفاع الكلفة سيرجع على ارتفاع أسعار بيع سلعتها الخدمية كانت كالصحة أو غير خدمية. وبخلاف المدن الاقتصادية الموجهة لشريحة صناعية وسياحية ذات قوة شرائية عالية، فإن الصحة موجهة لشريحة الشعب كله وغالبه لا يتمتع بقوة شرائية عالية. كما أن التخطيط للصحة يختلف جذريا عن التخطيط للمدن الاقتصادية. فالتخطيط للمدن مبني على فكر استثماري ربحي، وأما التخطيط للصحة فهو مبني على فكر الإعانة الحكومية عموما، سواء إعانة شبه كلية أو إعانة جزئية - كإعانة القطارات مثلا - والتي تتكفل بالكلفة الثابتة ككلفة البنية التحتية وتترك المستفيد من الخدمة ليدفع كلفة التشغيل.
فإن كان منطق عجز القطاع الخاص عن كلفة البنية التحتية للمدن له أساس صحيح، فمن باب أولى أن يعجز القطاع الخاص عن بناء بنية تحتية صحية متواضعة وآمنة ولا أقول متقدمة. فبجانب الكلفة الهائلة المادية التي يتطلبها بناء بنية تحتية طبية مقبولة، فبناء بنية تحتية طبية تحتاج لضوابط رقابية هائلة وضوابط أخلاقية ذاتية شبه مثالية، يستحيل تواجدها مع دافع تحقيق الربح. كما أن اقتصاديات الحجم الكبير الذي يحقق تخفيض الكلفة ورفع الجودة متوفر في آلية السوق الطبية، وهذا يستحيل إيجاده بين وحدات قطاع الخاص الطبية.
وبلادنا بلاد خرجت من رحم الصحراء مع طفرة البترول الأولى، فبُني قطاع للصحة بإمكانيات ذلك العصر، ثم توقف النمو في قطاع الصحة فيها عقدين، وتعثر وأعيق عقد آخر، فاليوم نحن لا نملك تقريبا إلا بذرة للخدمة الطبية المقبولة، المتمثلة في مستشفيات التخصصي والحرس.
والتأمين الطبي حافز تطويري ووسيلة تشغيلية فعالة لصرح طبي قائم راسخة تقاليده وأساساته الأخلاقية والعلمية والمهنية. وأما في حالة عدم وجود أساس صناعة طبية راسخة، فالتأمين الطبي يكون وسيلة حتمية لخلق ثقافة وأعراف طبية ربحية تجارية رخيصة كما سيخلق صناعة طبية هابطة مهنيا وعلميا وتجهيزيا.
والدول التي نجحت في التأمين الطبي هي مجتمعات قد تأسس فيها القطاع الصحي وتعمقت جذوره المهنية والعلمية والعرفية عبر قرنين من الزمان. فلا يقاس نجاح التأمين الطبي فيها على حال بلادنا. فالتأمين الطبي وسيلة تشغيلية وهو أعجز من أن يُقِيم قطاعا طبيا، لكنه قادر على تقديم الحلول الآنية الملحة.
ولكي لا يُتراجع عن خطط وُضعت تتوجه للتأمين والقطاع الخاص، فلتستمر هذه الخطط لتحقيق الأهداف الملحة القائمة. فبما أن التخطيط الاستراتيجي لبناء الصناعة الطبية في السعودية، يجب أن لا يهمل الحاجة الطبية الآنية للشارع، فهذا متطلب سياسي ملح كما هو متطلب طبي ملح. فالتخطيط للصحة في المملكة ذا شقين. الأول مؤقت قد يُعتمد فيه على وسائل الدفع لتحفيز القطاع الخاص لتلبية الحاجات الطبية الآنية، مع البدء في الشق الثاني وهو الاستمرار في الإنفاق والعمل على بناء صرح صناعة طبية سعودية غرضها تحقيق تنافسية طبية عالمية. فهذا الغرض يحقق بذاته أو مساهمة مع غيره، أربعة أهداف استراتيجية من أهداف التنمية السعودية. الهدف الصحي، وهدف التنويع الاقتصادي وهدف اقتصاد المعرفة وهدف تحقيق الرخاء والرقي. فالصناعة الطبية صناعة إنتاجية راقية دائمة في ذاتها لا صناعة لغيرها كالصناعة المالية.